اقتباس
أيها الخطيب الحبيب: قد شرَّفك الله ورفعك وأعلاك، ولعلك تُدرِك أن التكليف يكون على قدر التشريف... إن جلَّ الناس اليوم غرقى وأنت المخوَّل أن تنقذهم! إن كثيرًا من الناس جهالًا ينتظرون منك أن تعلِّمهم! إن فئامًا ضخمة من البشر يحيون في ظلام وضلال وفي يدك مشعل الهداية لتدلهم وترشدهم!...
أهو سحر؟! أجيب: نعم؛ إنه نوع من أنواع السحر... ولست أنا القائل، بل القائل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان لسحرًا"(رواه البخاري)...
فإن الخطيب إذا نبغ وأتقن خطابته فقد امتلك لونًا بديعًا من ألوان السحر، لكنه سحر حلال. ولقد كانت تنشأ المشكلة التي لو تُركت لتضخمت ولأسفرت عن خطب عظيم، فيقف الخطيب الملهم فيطوِّع أنواع البيان فيسحر من يسمعونه بروعة خطابه، فتتضاءل المشكلة وتضمحل حتى تتلاشى فكأنها ما كانت!... وإن خير من نضرب به المثال في ذلك هو قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلـم-، فها هي مقالة شر تنتشر في الأنصار -رضي الله عنهم- لما خص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغنائم قريشًا ولم يعط الأنصار منها شيئًا، فقال قائلهم: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه"!... فجمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخطب فيهم قائلًا: "يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟"، قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار"، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل. قال: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم، حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا(رواه أحمد).
وقد كاد يقتتل المهاجرون والأنصار لما ضرب مهاجريٌ عجز أنصاري، وخرج ابن سلول يؤجج النار بينهم، فطلع عليهم النبي -صلى الله عليه وسلـم- فخطبهم بكلمات قلائل فثابوا وأنابوا...
وما أُرسل نبي إلى قومه ألا أوتي الفصاحة والبلاغة والبيان، وإن الناظر إلى القرآن يكاد يجزم أن كل نبي كان خطيبًا مفوهًا، فهذا شعيب -عليه السلام- يخطب في قومه قائلًا: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)[هود: 84-86]، ومن كثرة ما كان نوح -عليه السلام- يخطبهم قالوا له: (يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)[هود: 32]...
وفوقهم جميعًا نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول متحدثًا بنعمة ربه: "أعطيت جوامع الكلم"(متفق عليه)، وكان إذا خطب أصحابه خضعوا واستكانوا وأنصتوا ثم طبقوا وأطاعوا، يروي أسامة بن شريك فيقول: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أصحابه عنده كأن على رءوسهم الطير"(رواه النسائي في الكبرى). بل ما من زعيم أو قائد أو رئيس -في الأغلب الأعم- إلا كان خطيبًا مفوهًا، وبقدر تمكن الخطيب من أدواته بقدر ما يعظم تأثيره على جمهوره...
فلا مبالغة إذن إذا قلنا: إن الخطيب المتمرس المتقن سلاح لا يكبو ولا يخيب، يفتح الطرق المغلقة، ويقود القلوب المترددة، ويُخضِع النفوس العنيدة...
بل إن من أعطي سلاح الخطابة والبيان فإنه يستطيع أن يجعل الحق باطلًا والباطل حقًا إذا خلا قلبه من الإيمان، ولعل رسولنا -صلى الله عليه وسلـم- كان يخاف ويحذر -وهو الذي يتنزل عليه الوحي- أن ينبهر بروعة بيان خطيب ما، فيقضي له بغير حقه! فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار"(متفق عليه). وهو أيضًا ما كان يخافه -صلى الله عليه وسلـم- علينا؛ أن ننخدع ببلاغة خطيب متمكن لكنه خال القلب من الإيمان والتقوى، فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان"(رواه ابن حبان).
فيا معاشر الخطباء إن بأيدكم السلاح الذي الي لا يخيب؛ فقد وهبكم الله -تعالى- بجانب ملكة الخطابة: العلم الشرعي ورأسه معرفة الله -عز وجل-، ووهبكم منبرًا داخل بيت من بيوته -سبحانه وتعالى- تحدثون من فوقه الناس، وجعل إنصات الناس لكم يوم الجمعة فريضة، ولهوهم عنكم محرَّم... ألا فجاهدوا ولا تهملوا ولا تتراخوا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- يقول: "إن المؤمن يجاهد بسيفه، ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل"(ابن حبان)، فشبَّه -صلى الله عليه وسلـم- كلام الشعراء المؤمنين والخطباء المخلصين بالسهام التي يُدافع بها عن حياض الدين. أيها الخطيب الحبيب: قد شرَّفك الله ورفعك وأعلاك، ولعلك تُدرِك أن التكليف يكون على قدر التشريف... إن جلَّ الناس اليوم غرقى وأنت المخوَّل أن تنقذهم! إن كثيرًا من الناس جهالًا ينتظرون منك أن تعلِّمهم! إن فئامًا ضخمة من البشر يحيون في ظلام وضلال وفي يدك مشعل الهداية لتدلهم وترشدهم!... فقم بواجبك؛ فتلمَّس خطورة ما أولاك الله، وعظم المهمة التي ألقاها على عاتقك؛ فأخلص النية، وأتقن التحضير، واشحذ الهمة، وترقى بنفسك...
وإسهامًا منا في ملتقى الخطباء لإنجاز تلك المهمة، فقد جمعنا هذا الملف العلمي الذي حوى ست محاور، دعمنا كلًا منها بخطب مقروءة ومحاضرات مرئية ودروس مسموعة ومقالات مدبجة وفتاوى متقنة... فلعلها تكون لك عونًا على الترقي والإتقان... والله من وراء القصد عليم، وهو الموفق إلى سواء السبيل. .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم