الكاتب : المفتي هاني خليل عابد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فتُعَدُّ خطبةُ الجمعةِ مؤتمراً تعقده الشريعة السمحاء للمسلمين في كل أسبوع مرة، بحيث يلتقي فيها المسلم وأخوه المسلم؛ فيتحابّان ويتراحمان ويتناصحان، ويستمع فيها المصلون إلى موعظة تُذكِّرهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر؛ لتُنقِّيهم من شوائب الدنيا، وتُصفِّيهم من الأغراض والأهواء.
وإنّ معقد خطبة الجمعة على الخطيب؛ فوجب أن يهتم الخطيب بشأنه وبشأن خطبته، ويليق به أنْ يتصف بصفات تؤهله للقيام بواجبه أحسن قيام.
ومن هذه الصفات التي تجعل الخطيب ناجحاً في تبليغ رسالته وأداء مهمته:
أولاً:الاهتمام بالإخلاص لله تعالى:
قال تعالى:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة/5.
وتتبين أهمية الإخلاص وخطره من أنه ضدّ الشرك والرياء، وهما مهلكتا العبد يوم القيامة، وسبب عدم قبول عمله، ودخوله النار، والعياذ بالله تعالى، بخلاف الإخلاص فإنه منجاة العبد من النار، وسبب الفوز والنعيم المقيم.
وقد قيل في معنى الإخلاص: "الإخلاص: أنْ يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة"، وقيل:"الإخلاص: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط"([1]).
وأما بالنسبة إلى الخطيب؛ فميزان الإخلاص عنده هو علاقته بإخوانه الخطباء؛ فإنْ كان يفرح لإقبال الناس على غيره، فذلك دليل على إخلاصه.
يقول حجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين": "وترى الواعظ يمنُّ على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظ السلاطين، ويفرح بقبول الناس قولَه وإقبالِهم عليه، وهو يدّعي أنه يفرح فيما يُسِّرَ له من نصرة الدين, ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً، وانصرف الناس عنه؛ ساءه ذلك وغمّه, ولو كان باعثَه الدينُ لَشَكَرَ الله تعالى، إذ كفاه الله تعالى هذا المهمّ بغيره"([2]).
ثانياً:إتقان مهارة قراءة القرآن الكريم:
ينبغي للخطيب أن يكون على معرفة بآيات القرآن الكريم، يحفظ قدراً منها، إذا استدلَّ بآية استدلّ استدلال الواثق، فلا يلحن لحناً جلياً ولا لحناً خفياً، ومما يشهد للاهتمام بالحفظ، ما جاء في الحديث عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت: "أخذتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة" رواه مسلم.
والأصل في الخطيب أنْ يعرض الآيات بشكل مفهوم وواضح للسامعين، قال النووي رحمه الله في "المجموع": "ولا خلاف أنّه لو قرأ (ثُمَّ نَظَرَ) المدثر/21؛ لم يكفِ، وإنْ كانت معدودة آية، بل يشترط كونها مُفْهِمة"([3]).
ويستفاد من كل هذا حرص الخطيب على الاستشهاد بالآيات، وعدم اللحن فيها، وأنْ تكون واضحةً ومفهومة.
ثالثاً:إيراد الأحاديث الصحيحة والإشارة إلى مصادرها:
لا يخفى التحذيرُ من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال قوله عليه الصلاة والسلام:(من كذب عليّ متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري.
ولذلك، فإنه ينبغي للخطيب أن يهتم بردّ الأحاديث إلى مظانّها (مصادرها)، وأنْ يقتصر على الصحيح منها ففيه غنية، ومن أمثلة ما شاع على الألسنة من غير الحديث الصحيح، ما نصّه:(لا تسيّدوني في الصلاة)، قال السخاوي:"لا أصل له"([4]).
وكما أنه من الواجب على الخطيب أنْ يتبع المنهج العلميّ في إيراد الأحاديث، وأنْ يختار الصّحاح منها؛ فعليه أنْ يسهم في الردّ على ما يشيعه الناس من أحاديث بغيةَ التأسيس لأحكام باطلة، ومن ذلك ما نصّه:(شاوروهن وخالفوهن)، قال السخاوي: "لم أره مرفوعاً"، وأوردَ عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشار السيّدة أم سلمة رضي الله عنها، كما جاء في قصة صلح الحديبية؛ وذلك لوفور عقلها. حتى صار ذلك دليلاً على جواز استشارة المرأة الفاضلة([5]).
رابعاً:الاهتمام باللغة العربية والحذر من اللحن ومن الألفاظ الوعرة غير المفهومة:
وهذا يتطلب من الخطيب الحرص على تعلم قواعد العربية الأساسية وأساليبها، فكلما كان الخطيب متعمقاً في أساليب اللغة؛ كان أقدر على إيصال رسالته للمخاطبين.
ويشهد لضرورة المحافظة على اللغة وإعراب الألفاظ ما جاء عن عَدِي بن حاتم أنَّ رجلاً خطب عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) رواه مسلم.
وسبب النهي الوارد في الحديث أنّ الخطب شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز([6]).
ولمراعاة اللغة والإعراب وجزالة الألفاظ؛ فإنه يليق بالخطيب قراءة كتب البلاغة، واختيار أحسن العبارات، وتقوية لغته، والبعد عن الألفاظ الركيكة، وكذلك الوحشية المستغربة.
خامساً:وعظ الناس وتعريفهم بأمور دينهم:
لا بدّ للخطيب أن يدرك ما عليه من مسؤولية وعظ الآخرين، قال النوويّ رحمه الله:"ومقصود الخطبة الوعظ"([7]).
والخطبة وسيلة شرعية من وسائل تثقيف الناس بأمور دينهم، ولست أدعو الخطباء هنا لطرح المسائل الخلافية على المنابر، فهذا يحتاج منهم إلى تخصيص دروس فقهية لهذه الموضوعات, وإنما قصدت أنَّ الخطيب الناجح يحرص على تناول قضايا يبيّن حكم الشرع فيها، وتكون هذه القضايا في مسائل الحياة المختلفة، فيوضّح للناس موقف الإسلام من قضايا الحياة في شؤونها المختلفة، وتأسيس الإسلام للإصلاح والعدل، وتحريم الظلم بأشكاله كافة، وتعليم الناس السلوك الحضاري في مختلف شؤون حياتهم.
والخطيب الناجح يتلمَّس حاجة المصلين الذين يصلون عنده، ويلاحظ مواطن الخلل عندهم، ويجتهد في الرقي المعرفي عند المستمعين له، وفي أن يجعل من آذانهم آذاناً علمية تقبل الحقائق، وتنفر من الضلالات والخرافات.
سادساً:مراعاة المستمعين من حيث الوقت والزمان والمكان:
الخطيب داعية إلى الله عزَّ وجل؛ فعليه أن يتَّصف بالحكمة والمهارة العالية في تقدير الوقت المناسب للحديث، ويتقن مهارة اختيار الألفاظ التي سيتحدث بها. عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُاللَّهِ بن مسعود يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ؛ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا؛ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا" رواه البخاري ومسلم.
قال النووي في شرح الحديث: يتخولنا؛ أي:يطلب حالاتهم وأوقات نشاطهم، وفي هذا الحديث الاقتصاد في الموعظة، لئلا تملّها القلوب، فيفوت مقصودها([8]).
ونلاحظ هنا:
1.الخطيب الناجح يحرص على عدم سآمة المصلين؛ فيحدد الموضوعات التي يتحدث عنها.
2.الخطيب الناجح يراعي أحوال السامعين؛ فمثلاً يضيق المسجد عن المصلين؛ فيقف بعضهم خارج المسجد في الحر الشديد أو في البرد الشديد، وترى من بداخله يجلسون متزاحمين، فينبغي للخطيب الناجح مراعاة أحوال السامعين زماناً ومكاناً وثقافة؛ لكي ينجح في عرض رسالته.
سابعاً:عدم إطالة الخطبة:
يشهد لعدم التطويل في الخطبة ما جاء في الحديث الصحيح أنّ عمار بين ياسر خطب فأوجز وأبلغ، فلما نزل؛ قيل له:يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفّست([9])، فقال:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إنَّ طولَ صلاةِ الرَّجلِ، وقِصَرَ خُطبته؛ مَئِنَّةٌ([10]) من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإنَّ من البيان لسحراً) رواه مسلم.
قال النووي: "وليس هذا الحديث مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة؛ لقوله في الرواية الأخرى: (وكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً), لأنَّ المراد بالحديث الذي نحن فيه أنّ الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلاً يشقّ على المأمومين، وهي حينئذ قصْد؛ أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وَضْعها"([11]).
والخطيب الناجح يستطيع أن يركّز أهم الأفكار وأولاها في وقت مناسب، فلا للتقصير المخلّ، ولا للتطويل المملّ.
ثامناً:اختيار الموضوعات الجامعة لكلمة المسلمين والبعد عمّا يفرّقهم:
خطبة الجمعة وسيلة مهمة يستطيع الخطيب من خلالها غرس قيم الانتماء للأمة وللإسلام وللوطن، وتعزيز قيم الخير في المجتمع، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، حيث كان يركّز في خطبه على وحدة الأمّة، ويحذّر ممّا يشتتها ويفرقها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنىً:(أتدرون أيّ يوم هذا)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: (فإنَّ هذا يومٌ حرام، أفتدرون أيّ بلد هذا)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:(بلد حرام, أفتدرون أي شهر هذا)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:(شهر حرام)، قال: (فإنّ الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) رواه البخاري.
ويستطيع الخطيب الناجح الاستعانة بالكتب التي أعدت موضوعات جاهزة ومؤلفة للخطابة، ويستأنس بها؛ ليتعرف على أساليب ومهارات إعداد الخطبة الناجحة.
تاسعاً:نظافة الثياب وحسن المظهر وطيب الريح:
تُعَدُّ النظافةُ أمراً مهماً للخطيب، وكذا حسن المظهر ولياقة الثياب؛ فإنَّ بعض الناس قد ينفر من الخطيب الذي لا يراعي النظافة التامّة، أو يبدو بصورة لا تتناسب مع الذوق العامّ، حتى إنَّ النظافة وحسن الصورة تُعَدُّ من مرجحات الإمام عند العلماء. يقول البدر العيني رحمه الله في ذلك: "تقدّم نظافة الثوب، والمراد به النظافة عن الوسخ لا عن النجاسات؛ لأنَّ الصلاة مع النجاسات لا تصحّ، ثم بعد ذلك حُسْنُ الصوت؛ لأنه به تميل الناس إلى الصلاة خلفه؛ فتكثر الجماعة، ثمّ حسن الصورة"([12]).
وكذلك الرائحة الطيبة التي تفوح من الخطيب تحبب الناس فيه، وتميل قلوبهم إلى كلامه والاستماع لخطابه وخطبته، ومن هذا كان نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم والبصل قبل القدوم إلى المسجد، قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) رواه البخاري.
ومما سبق يُعلم أنَّ العلة في ضرورة هذه الصفة أنْ تكثر الجماعة، ويكثر المصلون في الجمعة، ويدخلوا في شعائر الدين، فيعزّ الإسلام ويعزّ أهله بعزه.
عاشراً:استخدام الأمثلة الواقعية:
وذلك لأن العقول والقلوب تنشط عند ذكر الأمثلة، وتتفاعل معها ما لا تتفاعل مع غيرها، فالأمثلة توضح أكثر مما يوضح الكلام العادي المجرد، وكذلك هي تصور عاقبة المسيء والمحسن، ويكون لها أكبر الأثر في تربية النفوس وتزكيتها.
والحمد لله رب العالمين
[1]. الغزالي، إحياء علوم الدين (7/ 3-4).
[2]. إحياء علوم الدين (3/ 468).
[3]. النووي، المجموع شرح المهذب (4/ 520).
[4]. السخاوي، المقاصد الحسنة (1/ 240).
[5]. المقاصد الحسنة (1/ 134).
[6]. شرح النووي على مسلم (3/ 250).
[7]. المجموع (4/ 521).
[8]. شرح النووي على مسلم (9/ 207).
[9]. تنفّست: أطلت قليلاً، وأصله أنَّ المتكلم إذا تنفس طال كلامه.
[10]. مئنة - بِفَتْحِ المِيم ثُمَّ هَمْزة مَكْسُورَة ثُمَّ نُون مُشَدَّدَة - أيْ: عَلامَة. ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 249).
[11]. شرح النووي على مسلم (3/ 249).
[12]. العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (8/ 335).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم