الشيخ علي محفوظ
الخطابة في اللغة: مصدر كالخطاب، توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، وفي اصطلاح الحكماء: مجموع قوانين يقتدر بِها على الإقناع الممكن في أي موضوع يراد، والإقناع حمل السامع على التسليم بِصحَّة المقُول، وصواب الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ.
وهو نوعان: برهاني، وخِطابي؛ وغاية الأوَّل: إذْعَانُ العَقْلِ لنتيجةٍ مبنيَّة على مُقَدَّمات ثَبَتَتْ له صِحَّتُها كقولنا: الأربعة زوجٌ؛ لأنَّهُ مُنْقَسمٌ بِمتساوِيَيْنِ، وقولنا: العالم حادث لأنه متغيِّر، وغاية الثاني: إذعان العقل بِصِحَّة المَقول وصواب الفعل أو الترك بأقيسةٍ مؤلَّفة من أقوال مَظنونة، أخذ فيها بِالمُحتمل الراجِح، أو مقبولة صَدَرَتْ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ صِدْقُه وسدادُ رَأْيِه.
ووصف بالمُمكن: لأنَّ شَأْنَ هذه الصناعة إعدادُ النفوس لقوة الإقناع، وإن لم تبلغ غايتها، وكذا الشأن في سائر الصنائع فإنها تعد النفس لعمل خاص بمقتضى قوانين محدودة، وإن لم تبلغ غايتها أحيانًا؛ مثلاً: الطب ترشد أصوله إلى معالجة الأمراض لغاية الشفاء ما لم يكن مانع.
وفي أي موضوع يراد؛ لأنَّها لا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ مُعَيَّن، بَلْ تَتَنَاوَلُ كل شيء بخلاف غيرها من الصناعات؛ فمثلاً الخط: ينظر في رسم الحروف وهيئتها، والطب ينظر في أحوال جسم الإنسان والحيوان من جهة الصحة والمرض، فقد روى العلامة ابن رشد عن أرسطو: أن الخطابة ليس لها موضوع خاص تبحث عنه بمعزل عن غيره، فإنَّها تتناول كل العلوم والفنون، ولا شيء حقيرًا كان أو جليلاً، معقولاً أو محسوسًا إلا يدخل تحت حكمها، ويخضع لسلطانها، ومِن ثَمَّ قال الباحثون في شأنِها: يلزم أن يكون الخطيب ملمًّا بكل العلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائبًا إلى أن يزداد كل يوم علمًا.
وصفوة القول أنَّ الفلاسفة اعتبروا الخطابة علمًا له أصول وقوانين، تمكن الدارس لها من التأثير بالكلام، وتعرفه وسائل الإقناع بالخطاب في أي غرض من الأغراض الكلاميَّة، وأنه يعنى بدراسة طرق التَّأثير، ووسائل الإقناع، وما يلزم أن يكون عليه الخطيب من صفات وآداب، وإلمام بميول السامعين، وما ينبغي أن تكون عليه أساليب الخطبة، وترتيب أجزائها، وهو بهذا نبراس يُهْتَدَى به، ومصباح ينير السبيل أمام من عنده استعداد للخطابة ليربي ملكته، وينمي استعداده.
ويصح أن يُرادَ منَ الخَطابةِ ملكةُ الاقْتِدَار على الإقناع، واستمالة القلوب وحَمْل الغير على ما يُراد منه؛ بل هذا هو المعْتَبَرُ عِنْدَ المُحَقِّقين في معنَى العلم، ويؤيده ما نقل عن أرسطو في رسمها حيث قال: "هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة"، ومعناها أن الخطابة ملكة يطيق صاحبها إقناع المخاطبين في أي أمر يدعي أنه غرض صحيح.
وفي عرف الأدباء تقال على معنيين أحدهما: أنها كالخطبة - بضم فسكون - اسم للكلام المنثور سجعًا كان أو مرسلاً، وثانيهما: أنها إلقاء الكلام المنثور مسجوعًا كان أو مرسلاً، لاستمالة المخاطبين إلى رأي أو ترغيبهم في عمل، وهذا ما يريدونه في قولهم: فلان يقوم على الخطابة أكثر مما يقوم على الكتابة.
وأمَّا الخطابة عندَ المناطقة: فهي قياسٌ مؤلَّفٌ من مُقدمات مقبولة لصدورها مِمَّن يعتقد فيه، لاختصاصه بِمزيد عقل، أوتديُّن؛ كقولِه: العمل الصالح يُوجِبُ الفَوْزَ، وكلُّ ما كان كذلك لا يَنبغي إهْمالُه، وقد تقبل من غير أن تنسب إلى أحدٍ كالأمثال السائرة، لاشْتِمالِها على حِكَمٍ بليغة تستهوي العقول، وتستولي على المشاعر، أو مقدمات مظنونة، وهي قضايا يحكم بها العقل حكمًا راجحًا مع تجويز النقيض، كقولنا: فلان يطوف ليلاً بالسلاح، وكل من كان كذلك فهو لص، ففلان لص، والقصد منها ترغيبُ النَّاس فيما يَنْفَعُهم من أمور معاشهم، ومعادهم، وترهيبهم مِمَّا يضرُّهُم في المعاش والمعاد كما يفعله الخطباء، وهذا هو الأصل عندهم، وإلا فقد تستعمل للرَّدِّ على المدَّعي في دعواه، وبِما تقدَّم تعلم أنَّ المناطقة نظروا إلى الخطابة من حيثُ تأليفُها، وأرسطو نظر إليها من حيث ملكتها.
وأمَّا المُحاضرةُ فهي لغة: ما بين القوم أن يجيب الواحد غيره بما يحضره من الجواب، والناس اليوم يقولون ألقى فلان مُحاضرة يعنون خطابًا، في غرض خاص، وعلم الحاضرة من علوم الآداب.
والمناظرة في اللغة: المجادلة، تقول ناظرته مناظرة: جادلته مجادلة، والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته النظر، والبحث عند الأصوليين توجه خصمين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب.
والمناظرة البيانية: عبارة عن تأليف أنيق، يوجه الكلام لمتخاصمين يفاخر أحدهما الآخر، وتكون بالجمع بين شيئين متضادين، أو متباينين في صفاتهما وآثارهما، بحيث تظهر خواصهما بالمقابلة، كالحجاب والسفور، والصيف والشتاء، والسيف والقلم.
وغاية الخطابة عند الحكماء: الحصول على قوة التمكن من الإقناع، وفضلها عظيم، وشرفها جسيم، إذ فضل العلوم، والصناعات، وشرفها بشرف غاياتها، وللخطابة غاية ذات شأن خطير، وهي إرشاد الناس إلى الحقائق، وحملهم على ما ينفعهم في العاجل والآجل، والخطابة معدودة من وسائل السيادة والزعامة، وكانوا يعدونها شرطًا للإمارة، فهي تكمل الإنسان وترفعه إلى ذرى المجد والشرف، قال العلامة ابن سينا في "الشفاء": إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له مراسيم لتقويم عيشه، والاستعداد إلى ميعاده، وحسبها شرفًا أنَّها وظيفة قادة الأمم من الأنبياء والمرسلين؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومَن على شاكِلَتِهم من العُلماء العاملين، وعُظماء الملوك، وكبار الساسة، وفوائدُها جمَّة، فهي التي تعرف صاحبها كيف يمتلك القلوب، ويستميل النفوس، ويحرك العواطف، ويهيج الخواطر نحو ما يريد، بنبراسها تستضيء موارد الدليل، وتتضح مصادر الحجة لإنفاذ كل أمر جليل، وإدراك كل غاية شريفة، وقوانينها ترشد الطالب إلى مواضع الضعف وشعب السهو والزلل فيقوى على دحض حجة المناظر، وتزييف سفسطة المكابر، وهي التي تثير الحماسة في النفوس الفاترة، وتُهدئ النفوس الثائرة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وترد المظالم، وهي التي تهدي الضال إلى سواء السبيل، وتفض النزاع وتقطع الخصومات، فالخطيب البارع يقف بين ذوي المنازع المختلفة والآراء المتضاربة، فلا يزال يبين لهم النافع من الضار والصواب من الخطأ حتى يجعل الجميع في قبضة يده، والخطيب البارع يقوم بين طائفتين استعرت بينهما نار العداوة والبغضاء فيذكرهم بعواقب التقاطع، ويحذرهم من نتائجه السيئة، فإذا القلوب مؤتلفة والنفوس متآخية.
وبالجملة فقد تتعيَّن الخطابة طريقًا إلى التأثير والإقناع، حيثُ لا يفيد البرهان؛ قال العلاَّمة ابن رشد نقلاً عن أرسطو: ليس كل صنف من الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إمَّا لأن الإنسان قد نشأ على مشهوراتٍ تُخالف الحقَّ، فإذا سلك نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه، وإمَّا لأنَّ فطرته ليستْ معدَّة لقبول البرهان أصلاً، وإمَّا لأنَّه لا يُمكن بيانُه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه، فهذا الصنف الذي لا يجدي معه الاستدلال المنطقي تهديه الخطابة إلى الحق الذي يراد اعتناقه، لأنها تسلك من المناهج ما لا يسلكه المنطق، وهذه مزية عظيمة لا يستهان بها، وقال العلامة ابن سينا: إن صناعة الخطابة عظيمة النفع جدًّا؛ لأن الأحكام الصادقة فيما هو عدل وحسن أفضل نفعًا، وأعظم من أضدادها فائدة، والإنسان لا يعيش وحده، فكان لا محالة محتاجًا إلى التعامل والتجاوز، وهما محتاجان إلى أحكام صادقة، وهذه الأحكام تحتاج إلى أن تكون مقررة في النفوس، ممكنة في القلوب، والبرهان قليل الجدوى في حمل الجمهور على الحق، فالخطابة هي المعنية بذلك. ا هـ بتصرف.
وأصلها النظر والاختبار، وذلك أنَّ اللَّهَ تَعالى فَطَرَ بَعْضَ بَنِي الإنسان على قُوَّة البيان وملكة التأثير، فاقْتَدَرُوا بِها على حمل غيرهم على ما أرادوا منهم، فلحظ الأمر غيرهم ممن لم ينالوا تلك الملكة، واستخدام القلوب، فدونوا نتيجة أبحاثهم، ووسعوها حتى جاء أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد فضم شارد هذا الفن، وجمع شتاته في كتاب ضمنه قواعد هذه الصناعة سماه "الخطابة"، وهو الكتاب الذي عربه بشر بن متى، ولخصه ابن رشد، وأخذ عنه فلاسفة العرب؛ كابن سينا والفارابي، وعندما نقل هذا الكتاب إلى العربية في القرن الثالث من الهجرة عده كثير من هؤلاء الفلاسفة جزءًا مكملاً لعلم المنطق؛ كابن سينا فإنه جعل الخطابة قسمًا منه، ذلك أنهم رأوا أن أرسطو في كتاب الخطابة قد تكلم على الحد والرسم والدليل، وكيف يتألف القياس الخطابي؛ كما تكلم على التصديق الذي يكفي في الخطابة، واستمر أمر الفلاسفة على هذا الحال إلى أن قصر المتأخرون منهم النظر في المنطق على القياس وأشكاله.
ومن هذا تعلم أن لفن الخطابة صلة وثيقة بفن المنطق من حيث إن علم المنطق خادم له، وإن بعض قوانين الخطابة يعتمد على مبادئ المنطق، وإن الخطابة مخلوقة مع الإنسان، وإن البحث عنها كان قبل الجاهلية والإسلام، وإن تأثير البلاغة في النفوس لا يخص أمة ولا جيلاً.
وطرق تحصيلها إجمالاً أربعة:
الأول: الفطرة والاستعداد الغريزي؛ وهذا هو الأساس.
الثاني: معرفة الأصول والقوانين التي وضعها الحكماء.
الثالث: الإكثار من مطالعة أساليب البلغاء ومصاقع الخطباء، ودراستها دراسة متعرِّف لمناحي التأثير وجهات الإقناع فيها، ومتذوّق لما فيها من متانة الأسلوب وحسن العبارة وجودة التفكير، قال ابن الأثير في "المثل السائر": إنَّ في الاطلاع على أقوال المتقدمين من المنظوم والمنثور فوائد جمة؛ لأنه يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فهذه الأشياء مما تقوي الذهن وتزكي الفطنة، وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفًا بها تصير المعاني التي تعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منها ما أراد، وأيضًا فإنه إذا كان مطلعًا على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه، وعلى الجملة فدراسة كلام البلغاء تقدم للقارئ ألوانًا من المعاني والأساليب تنمي فيه ملكة الخطابة.
الرابع: الارتياض والاحتذاء لأن الخطابة - كما علمت - ملكة نفسية، لا توجد دفعة واحدة؛ بل لا بدَّ لطالبها من الممارسة والمران كي تنمو مواهبه.
فالارتياض هو التدريب على الخطابة، فإنَّ ملكَتَها تنمو وتقوى بالمرانة والممارسة، قال خالد بن صفوان: إنَّما اللسان عضو إن مرَّنْتَهُ مرن، فهو كاليد تخشنها بالممارسة، وكالبدن تقويه برفع الحرج، والرِّجل إذا عودت المشيَ مشتْ.
وللارتياض وجوه منها: أن تتوسَّع في شرح بعض المعاني فتبيِّنه بأوجه شتى، وتزينه بوسائل التأثير، ثُمَّ تتعوَّد على تلخيص العبارات المبسوطة في عبارة وجيزة جامعة للمعاني التي حواها الموضوع؛ لتبقى في ذهن السامعين، ومنها: أنْ تَجتَهِدَ في وضع بعض مواضع علميَّة وجيزة؛ لتكون ذريعة إلى أفخم منها، فإنَّ المتروِّض ينجح على قدر ما يصرف من الهمة والثبات في ذلك، ومنها أن يكلف وصف المعاني التي يصل إليها من المشاهدات، بحيث ينقل ذلك إلى نفس السامع بحالةٍ تجعله كالمشاهد لها، فإنَّ الخطيب أحوجُ النَّاس إلى ضرب الأمثال وأنواع التشبيه في الوصول إلى غايته من نفس السامع، فإذا حَصَلَ على ملكة الاقْتِدارِ فله أن يَبْتَكِرَ ما شاءَ مِنْ وَسائِلِ التَّأْثير الَّتِي يَراها أرجى للوصل إلى ما يريد.
والاحتذاء أن يعمد الطالب إلى أساليب المتقدمين، فيقتفي أثرها، ويَنسج على منوالها، فلا غنى له عن الاقتداء بالسابقين، والاقتباس من الأوَّلين فيما اخترعوه من معانيهم وسلكوه من طرقهم، والتقليد عريق في بني الإنسان:
وَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ♦♦♦ إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فَلاحُ
وكان بعض خطباء العرب يتصدَّى لتعليم الفتيان كيف يخطبون؛ كإبراهيم بن جبلة السَّكُونِي في عصر الدولة العباسية، ثُمَّ إنَّ الخطابة كسائِرِ الصَّنائع يتفاوَتُ النَّاسُ في إِتْقانِها والأخذ بِزِمامِها، فمِنْهُم مَنْ يَقْتَدِرُ عليها في أمدٍ قَرِيب، ومِنْهُم مَنْ يَحتاج إلى أن يَقْضِيَ في سَبِيلِها زمنًا بعيدًا، يقول أهل الأدب: إنَّهم لم يروا خطيبًا بلديًّا إلا وهو في أول تكلفه للخطابة كان مستثقلاً إلى أن يتوقح، وتستجيب له المعاني ويتمكن من الألفاظ إلا شبيب بن شيبة فإنه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة، فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيره، وأن العرب كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرب عليها إلى أن تصير لهم سجية وعادة، يقولون: إن عمر بن سعيد بن العاص الأموي كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقه، فلم يزل يَتشادق ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه، ولذا لقب بالأشدق، وفيه يقول الشاعر:
تَشَدَّقَ حَتَّى مَالَ بِالقَوْلِ شِدْقُهُ ♦♦♦ وَكُلُّ خَطِيبٍ لاَ أَبَا لَكَ أَشْدَقُ
والأشدق: واسع الشدقين والفم الفصيح اللسن، وسعة الفم عندهم من سمات الفصاحة والبيان، وصفوة القول أنه لا يحصل على ملكة الخطابة إلا من أحكم وسائلها، وسلك سبيلها، وتدرب عليها يومًا فيومًا، وراض عليها لسانه في النوادي العامة والجموع العظيمة، وإن راعه الموقف أولاً أمنه آخرًا فقديمًا قيل: من وقف حيث يكره وقف حيث يحب، وبالله تعالى التوفيق.
المصدر: كتاب "فن الخطابة"
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم