د. محمد بن سعد الدبل
وإذا كانت تلك الخصائص - التي رأيناها في المقالة السابقة - إنما هي في الألفاظ، فماذا عن المعاني؟
إن الأدب في إطار التصور الإسلامي هو إلهام الكلمة الغائبة المعبِّرة التي تملك التأثير في سرد عدد من الموضوعات التي ترسم أبعاد الأدب وصلته بالعقيدة، ذلك الموضوع الذي تبين فيه مهمة الأدب ووظيفة الأديب ومهمته في الحياة، وما يجب أن تحمله رسالة الأدب والأدباء مِن كلمة صادقة طيبة، وفكرة هادفة سليمة، ورأي سديد يعالج الأدواء التي يشكو منها المجتمع المسلم، ومعلوم أن الخطوة الأولى في الأعمال الأدبية هي ما يَستجمِع الأديب - شاعرًا أو كاتبًا أو قاصًّا أو خطيبًا - ما يدور في ذهنه، ويَعتمِل في صَدرِه مِن أفكار سيبني عليها موضوعه، وهذه الأفكار - في أكثر الأحيان - تكون عامةً يَكاد أن يَشترِك فيها كثير مِن الناس، لكنهم مُتفاوِتون في المعاني التي تشرح هذه الأفكار وتُجليها؛ ولذلك كانت المعاني الأدبية هي مجال التفاضُل بين كاتب وكاتب، وشاعر وشاعر، وخطيب وخطيب، وأَحرِ بهذا التفاضل في مضامين الأدب الإسلامي كثرة ووضوحًا ونُبلاً وشرفًا، وبخاصة في هذا النص الخطابي مِن كلام عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله.
وإذا كان لكل لون مِن ألوان الأدب خصائص ومميزات تُبرِز سماته وترسم أبعاده، وتُحدِّد غاياته، وترقى بمؤدِّبيه ومُتلقِّيه إلى أرفع درجات الكمال مِن التأثر والتأثير والمُتعة، إذا كان ذلك مِن خصائص كل أدب فإن الأدب الإسلامي بجميع ألوانه يستجمع هذه الخصائص والمميزات ويزيد عليها؛ لأنه في خصائصه ومميزاته أدب نابِع عن التصور الإسلامي للحياة والأحياء، فكان لزامًا أن يكون مِن خصائص ذلك النص الفريد مِن كلام عمر، تلك السمات التي يُنادي بها علماء الأخلاق والاجتماع ورجال الفكر والأدب مِن مثل خصوصيَّة الالتزام، وخصوصية الشمول والعموم، والواقعية والإيجابية والإبداع، وحسْن الاتباع، والأديب المُلتزم ليس ذلك الأديب الذي لا يَخرج عن نطاق بيئته إلى بيئة أخرى، وإنما الأديب الملتزم هو ذلك الأديب الذي يطلُّ بعطائه مِن نافذة واسعة على مجتمعه ليُعالج ما يَشكوه من أدواء، ويَخرج بأدبه على الأدب العالمي ليأخذ منه بمقدارٍ على حسب ما يَخدم العقيدة، وتلك الخصائص قد تحقَّقت في هذه الخطبة؛ فقد استطاع عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - أن يُبرز الأدواء، ويضع الدواء النافع مِن خلال هدي الإسلام الذي يميِّز الشخصية الإسلامية، ويطبَع سيرتها الذاتية بطابع الخلُق القويم، ولنا أن نسأل:
- ماذا عن السيرة الذاتية للأديب المسلم، مِن خلال عطائه الفكري، ومِن خلال ما يَكتبه عن نفسه، إن جاز له أن يؤرِّخ لحياته الأدبية والعلمية، وبخاصة مَن كان مُفكِّرًا وخطيبًا مسلمًا كعمر بن عبدالعزيز - رحمه الله!
إن الأدب في أجناسه جميعها يُعتبَر في أبسط مفهوم له مادة يَنزع عنها الأديب، ويصدر منها ما يراه نافعًا وما يراه ضارًّا، ومعلوم أن البيئة بزمانها ومكانها وملابساتها تكاد تكون مصدر حكْم نقديٍّ من الأديب، وعليه فإن صدق في مضمون عبارته ونحا بها صوب العطاء النافع كان ذلك الأديب الذي يحسُّ بنفسه ويحسُّ به مجتمعه، وأن يُساير الأحداث مؤيدًا لتفاعلاتها أيًّا كانت، وإن حاول تغطية الصحيح من القول معنى ومبنى كان ذلك الأديب الذي تلعب به عواطفه، ولا يستطيع التحكُّم فيها ولا مغالبتها، وحملها على الحق الصراح الذي تُمليه رسالة الأديب ومهمته في الحياة، وإذا وقفْنا على عدد مِن قصائد الشعراء وقصص القصاصين وأعمال الأدباء عامة، فقد لا نجد ذلك اللون الصادق المصدوق مما يُحرِّره الأدباء عن سيَرِهم الذاتية أو يكتبه غيرهم عن حياتهم ومُلابساتها، وتكاد تكون هذه الظاهرة أو هذه الخصوصية إنما تصدق في إطارها ومضمونها على هذه الخطبة؛ فهي في موضوعاتها وأفكارها سيرة ذاتية تنمُّ عن شخصية فذَّة في السلوك والاتباع والانتفاع بأحكام الإسلام ومثُله الرشيدة، ويؤيد هذا المبدأ الخلُقي في رسم أبعاد الشخصية الإسلامية قول عمر مِن خطبته تلك: "أما إني أقول هذا، وما أعلم أن عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه"، وهذه العبارة من أرقى العبارات في تجسيد الواقعية المثالية من خلال الفنِّ الأدبي الذي ينطلق من وجهة نظر الإسلام في تحديد مفهوم الواقعية بواسطة شخصية الأديب المسلم الذي يترسَّم بكلمته وفكره وسلوكه معنى الواقعية الإسلامية التي هي "الإبداع البشري الهادف الجميل الذي يرتفع بروح الإنسان باتجاه المثال النقي، مُبتعدًا عن أوحال الأرض وشرورها وآثامها؛ مِن خلال أبعاده الزمانية والمكانية والفِكرية"[1]، وهذا هو ما نلحظه في ثنايا هذه الخطبة من كلام عمر في تجسيد المعاني الإسلامية الغائية النبيلة الهادفة، من مثل قوله - رحمه الله -: "أما بعد، فإنكم لم تُخلقوا عبَثًا، ولن تُتركوا سدى"، "ألم تعلموا أنه لا يأمن مِن غدٍ إلا من حذر اليوم وخاف"، "ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، ستكون مِن بعدكم للباقين".
هذه هي الواقعية المثالية في مضامين الأدب الإسلامي، إنها معانٍ شريفة سامية تتحدَّث عن إيمان ويقين، لتُفصح عن مبدأ الخَلق للإنسان والغاية منه، وعن مبدأ السير على منهج الله - تعالى - بحذر عقابه، وبتقواه، وعن التفكير في الهالكين الأولين وفي الباقين؛ ففي ذلك معنى الإيمان بالخالق الذي يحيي ويميت.
ونلحظ من خلال كلام عمر بن عبدالعزيز في هذه الخطبة، وفي خطب غيره من المسلمين في العهد النبويِّ وشطر من العهد الأموي، نلحظ ظاهرة تكاد تكون مِن خصائص الخطب عند الجاهليِّين، وتلك الظاهرة أو الخصوصية هي اتسام الخطبة الجاهلية بالإيجاز والقِصَر، والسجع، والاستشهاد بالشعر والحِكم والأمثال.
ولا شك أن الخطابة الإسلامية قد حافظت على جلِّ هذه الخصائص، باستثناء السجع الذي اختفى أو كاد؛ بسبب نهْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ لما فيه مِن تشبُّه بسجع الكهان؛ فقد روي في الحديث الشريف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قضى على رجل في جنين بديَتِه؛ فقال الرجل: يا رسول الله، أأَدِي مَن لا شَرِب ولا أكَل، ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يُطَل؟، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب على الرجل وقال له: ((أسجعًا كسجْع الكهان؟))[2].
ولا شك في صحة هذا الخبر، ولا شك في ظهور هذه الخصوصية التي هي انتفاء السجع مِن الخطب الإسلامية، ولكن ليس الأمر على إطلاقه، فإنما المقصود بالسجع الذي ذمَّه الرسول الكريم، وعريَت منه الخطب الإسلامية هو السجع المتكلَّف؛ ولذلك قيَّده الرسول الكريم بسجع الكهان على حد قوله: ((أسجعًا كسجْع الكهان؟)).
أما السجع المطبوع غير المتكلَّف فقد جاء في كلام العرب جاهلية وإسلامًا، وندرة هذه الخصوصية في كلام الرسول الكريم وكلام صحابته لا تَعني تحريمه، وإنما تعني ذمَّه وذمَّ قائله متى كان متكلَّفًا كسجْع الكهان.
ولبُعد تأثيره في النص الأدبي من حيث المعنى والمبنى درَسه البلاغيون ونُقاد الكلام حتى صنَّفوه أبوابًا ونوَّعوه أنواعًا، فجعلوا منه السجع الطويل الفِقَر، والسجع القصير، والسجع المُزاوج، والسجع المتوازي والمُطرَّف، والترصيع والمتوازن، وساقوا له الشواهد مِن القرآن الكريم ومِن كلام العرب؛ يقول عبدالقاهر الجرجاني: "ولستَ تجد هذا الضرب يَكثُر في شيء ويستمرُّ، كثرتَه واستمرارَه في كلام القدماء؛ كقول خالد: "ما الإنسان لولا اللسان" إلا صورة ممثلة، وبهيمة مُهمَلة، وقول الفضل بن عيسى الرقاشي: سلِ الأرض، فقل: مَن شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبْك حوارًا أجابتْك اعتبارًا، قال عبدالقاهر: "وإن أنت تتبَّعته مِن الأثر، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - تثق كل الثِّقة بوجودك له على الصفة التي قدمت، وذلك كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الظلم ظلمات يوم القيامة))[*]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال أمتي بخير ما لم ترَ الغِنى مغنمًا والصدقة مغرَمًا))[*]، وقوله:((يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))[*].
قال عبدالقاهر: فأنت لا تجد في جميع ما ذكرتُ لفظًا اجتُلب من أجل السجع، وترك له ما هو أحق بالمعنى منه، وأبر به، وأهدى إلى مذهبه[3].
ويقول الرازي: "ثم إن روعي التساوي في جميع كلمات القرائن كان أحسن؛ كقول الله - تعالى -: ﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الصافات: 117، 118].
ويَمضي قائلاً: واعلم أن السجع قد يكون متكلَّفًا بالتعسُّف، وعلامته أن يكون الحرف لم يُحتَج إليه لأجل المعنى، وإنما احتيج إليه لأجل التقفية، أو إن كان فيه معنى فقد ترك الأولى منه، وذلك هو السجع القبيح[4].
ومعلوم أن نصوص الأدب الإسلامي مِن خَطابة أو رسالة أو عهد أو وصية أو شعر سواء كانت هذه النصوص من العهد النبوي أو من العهد الأموي؛ معلوم أن معظم النصوص الأدبية في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ الأدب قد عَريَت مِن زخرف القول والصنعة المُتكلَّفة، بما في ذلك ظاهرة السجع، وبرهان ذلك ما مرَّ معنا في أول الفصل مِن هذه الدراسة، بما في ذلك خطبة عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله.
وإذ كنا نَستمِد الإبداع مِن إيراد عدد مِن نصوص الأدب الإسلامي عبر تاريخ الأدب، سواء مِن النثر بأنواعه أو مِن الشعر بألوانه، فإن في كلام الأدباء والأنبياء ما ينهَض بعدد مِن الدراسات البيانية والنقدية والأدبية، سواء مِن آثار المتقدِّمين - كما مرَّ ذكره - أو مِن آثار مَن وليَهم إلى عصر النهضَة الحديثة.
[1] الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد؛ الدكتور أحمد بسام ساعي، ص 45، دار المنار، جدة.
[2] من أدب الدعوة الإسلامية، عباس الجراري ص 121، ط2، دار الثقافة، الدار البيضاء.
[*] الحديث في مسند الدارمي، كتاب السير ص 72، مسند الإمام أحمد 2، 92، 106، 136.
[*] الحديث في صحيح مسلم.
[*] الحديث في سنن الترمذي، كتاب القيامة 42، وفي سنن ابن ماجه كتاب الأطعمة 1.
[3] أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني ص 9 طبعة، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت.
[4] نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز لفخر الدين الرازي ص 143، تحقيق: د. بكري شيخ أمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم