.أ.د. إسماعيل علي محمد
هو إمام عصره في الوعظ والخَطابة، الإمام العلاَّمة الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، المتوفَّى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، عن عمر يزيد على الخامسة والثمانين [1].
هذا العالم كان آية الزمان في الوعظ والخَطابة، وقد نفع الله بوعظه وفصاحته الدعوة الإسلامية نفعًا كبيرًا، وأجرى على يديه للمسلمين خيرًا كثيرًا.
قال عنه الإمام الذهبيّ: وكان رأسًا في التذكير بلا مدافع، يقول النّظْم الرائق، والنثر الفائق بديهاً، ويُسهِب، ويُعجِب، ويُطرِب، ويُطنِب، لم يأت قبلَه ولا بعدَه مِثلُه، فهو حامل لواء الوعظ، والقيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقْع في النفوس، وحُسن السيرة.
وأحَبّ الوعظ، ولهِج به، وهو مراهق، فوعظ الناس وهو صبي، ثم ما زال نافِقَ السوق مُعظَّما متغاليًا فيه، مُزدَحَمًا عليه، مضروبًا برونق وعظه المثل، كمالُه في ازدياد واشتهار، إلى أن مات رحمه الله وسامحه.
وكان ذا حظ عظيم وصيتٍ بعيد في الوعظ، يحضر مجالسَه الملوكُ والوزراءُ وبعضُ الخلفاء والأئمة الكبراء، لا يكاد المجلس ينفضُّ عن ألوف كثيرة.
قال سبطه أبو المظفر: سمعت جدي على المنبر يقول: بإصبعيّ هاتين كتبت ألفيْ مجلدة، وتاب على يديّ مائةُ ألفٍ، وأسلم على يديّ عشرون ألفًا [2].
ولْنعِش الآن مع بعض مجالس هذا الفارس، لنرى كيف كانت خطبُه توقظ من الناس المشاعر، وتثير منهم الكوامن، وتنقلهم من محيط المعصية إلى محيط الطاعة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الضلال والغواية إلى الرشاد والهداية، وإلى السعادة في المعاش والمعاد.
ذكر أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي من أدباء القرن السادس، وصْفا لبعض مجالس الإمام ابن الجوزي ببغداد، وهو في الحقيقة وصف صادق أخّاذ [3].
أخذ ابن جبير يصف مجلساً للشيخ، وكان يجلس به كل يوم سبت بإزاء داره، وبعد أن صور بلاغة الشيخ وفصاحته وعذوبة منطقه قال:
ثم إنه أتى بعد الفراغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب، وذابت بها النفوس، إلى أن علا الضجيج وأعلن التائبون بالصياح، و تساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كلٌّ يُلقِي ناصيتة بيده فيجرها ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يُغشَى عليه ويُرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هوْلًا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكِّرها أهوال يوم القيامة، وفي أثناء مجلسه ذلك تُطَيَّرُ إليه الرقاع بالمسائل فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
ثم أخذ في وصف مجلس آخر له في ساحة قصور الخليفة، وكان ينعقد كل يوم خميس، فقال:
وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلِّم، فصعد المنبر وقد تسطّر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، فبكت العيون لقراءتهم، فلما فرغوا منها وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، سطع بخطبته الزهراء الغرّاء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشّى الخطبةَ على فِقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [غافر: 61] فتمادى على هذا السين، وحسَّن أيّ تحسين، فكان يومه ذلك أعجب من أمسه، ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهة لا روية، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى، فأرسلَتْ وابلَها العيونُ، وأبدت النفوسُ سرَّ شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه نادمين تائبين، فطاشت الألباب، واستولى عليها الوَلَه والذهول، واهتزت القلوب ولم تجد للصبر سبيلاً، ثم في أثناء مجلسه يَنشُد بأشعار من النسيب مبرِّحةِ التشويق بديعةِ الترقيق، تملأ القلوب خشية وزهدا، وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المَقاتلَ سهامُ ذلك الكلام:
أين فؤادي أذابه الوَجْدُ
وأين قلبي فما صحا بعْدُ يا سعدُ زِدْني جَوىً بذكرهم بالله قل لي فُدِيتَ يا سعدُ |
ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والبكاء كاد يمنعه من الكلام، فنزل عن المنبر دَهِشاً، وقد أطار القلوب وجَلاً، وترك الناسَ على أحرّ من الجمر يشيعونه بالدموع، فمِن مُعلِن بالانتحاب، ومِن مُتعفِّر في التراب، فيا له مِن مشهد ما أهولَ مَرْآه، وما أسعدَ مَن رآه، وما كنّا نحسِب أن متكلماً في الدنيا يُعطَى من مَلكة النفوس والتلاعب بها ما أُعطِي هذا الرجل الذي يضيق الوجود عن مثله، فسبحان مَن يخصّ بالكلام مَن يشاء مِن عباده لا إله غيره. أهـ.
إن الدعوة الإسلامية بحاجة إلى مثل هذا الخطيب الفصيح البليغ، العالم الداعية، في زمن كثر فيه الأدعياء، وأطلّت برأسها الفتن، واستشرى الفساد، ونشط فيه دعاة الباطل وسَدَنتُه، وكادوا أن يجتالوا الناس عن دينهم بزخرف من القول، وبهرج من الدعاية، وترغيب وترهيب، ومكر بالليل والنهار.
وإن مما يؤسف له أن نلاحظ أن كثيرين من المنتسبين للدعوة الإسلامية ليسوا على المستوى الذي نطمح إليه، وليسوا مؤهلين لمخاطبة الجماهير والتأثير فيهم باقتدار ومهارة، لاستمالتهم وإقناعهم بالانحياز إلى الإسلام منهجا وتطبيقاً.
إنني أعرف أن مِن بين مَن تخرجوا مِن الكليات الشرعية عامة والدعوة خاصة، أناسًا لم يكونوا مؤهلين نفسياً لولوج مثل هذه التخصصات، وإنما سيقوا إليها سوقًا، أو اضطروا إليها اضطرارًا، فدخلوا وخرجوا ووُظِّفوا، دون أن تحتل الدعوة أو العمل للإسلام في نفوسهم حيزًا أو مكانة ترقى إلى لقمة العيش، وأمْرِ تحصيل الرزق، فضلاً عن ضعف الاستعداد العلمي والخلقي لأمثال هؤلاء، فكانوا فاترين في عطائهم، خاملين في عملهم وأدائهم، عاجزين عن النهوض بالدعوة والجهاد بها ومن أجلها، حتى صاروا كَلاًّ عليها، وقرّة عينٍ لأعدائها.
وهذه الظاهرة المؤسفة، تحتّم علينا أن نعيد النظر في سياسة إعداد الدعاة من انتقاء وتأهيل وتوجيه، ونحو هذا مما يتطلبه الإعداد الجيد، ولا يسمح المقام بالخوض في تفاصيله الآن.
[1] سير أعلام النبلاء. تصنيف الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي 21 /365 وما بعدها باختصار وتصرف. تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط الثامنة 1412 هـ 1992م.
[2] السابق 21 /367 وما بعدما باختصار.
[3] رحلة ابن جبير، محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي (المتوفَّى 614هـ) ص 176 وما بعدها، دار ومكتبة الهلال - بيروت. وانظر: هداية المرشدين. علي محفوظ ص 86. دار الاعتصام. القاهرة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم