اقتباس
وهذا أمر نبوي كريم، يليه تحذير شديد ووعيد أليم، ينقله سمرة بن جندب أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها"...
يا له من موكب مهيب، لكأنه موكب عرس، تُزف فيه العروس وأهلها محيطون بها، لكنهم لا يتركونها عند بيتها وينصرفون، كلا، بل لا تدعهم هي حتى تدخلهم دار السلام في سلام، إنها ليست كأي عروس، إنها عروس لها خصوصية ومزية، ينقل إلينا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها، ونصه: "إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيأتها، ويبعث الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفون بها؛ كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضًا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان لا يطرقون تعجبًا حتى يدخلون الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون"(رواه الحاكم، وصححه الألباني).
وإن كان هذا هو حال أهل يوم الجمعة وأهل صلاتها، فلا شك أن للجمعة نفسها من الفضائل والمزايا والخصوصيات على سائر الأيام ما لا يعلم منتهاه إلا الله -تعالى-.
فيوم الجمعة هو خير الأيام كلها: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة"(رواه مسلم)، وفي رواية لأبي داود وغيره: "وفيه تيب عليه، وفيه مات"، فهو -كما ترى- يوم مليء بالأحداث الضخام؛ أولها: خلق أبينا آدم -عليه السلام-، ثم إدخاله الجنة، ثم خروجه منها، ثم حدث ضخم آخر هو قيام الساعة، فعند أبي داود أيضًا: "وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس".
وثاني مزاياها أن فيها ساعة إجابة: ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوم الجمعة، فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله -تعالى- شيئًا، إلا أعطاه إياه"، ولقد اختلفوا في تلك الساعة الغالية؛ ما موقعها من يوم الجمعة؟
فمن قائل أنها ساعة وجود الإمام على المنبر، واستدلوا بحديث صحيح مسلم أن أبا موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة"، ولو صح هذا لكان عمدة في هذا المقام، لكن هذا الحديث -رغم كونه في صحيح مسلم- قد ضعَّفه العلماء، وقالوا: الصحيح وقفه على أبي موسى.
وقال بعضهم: "هي من بعد العصر إلى الغروب.. وقال آخرون: هي من حين خروج الإمام إلى فراغ الصلاة، وقال آخرون: من حين تقام الصلاة حتى يفرغ... وقيل: من حين يجلس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الصلاة، وقيل آخر ساعة من يوم الجمعة"(ينظر: شرح النووي على مسلم)... ولعل الراجح هو الأخير لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، فيها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر"(رواه النسائي، وصححه الألباني).
وثالث المزايا: هو أجر لا حد له: فعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقد فصَّل حديث الصحيحين أجر التبكير المجمل في هذا الحديث وبيَّن أن التبكير درجات؛ فعن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"(متفق عليه).
ورابع مزاياها: مغفرة الذنوب والخطايا: فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"(متفق عليه)، ونقل إلينا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- حديثًا خاصًا بصلاة الجمعة وحدها قائلًا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"(رواه البخاري).
***
والآن وقد علمنا بعض خصائص يوم الجمعة وصلاتها، فماذا ينبغي علينا أن نصنع يومها وليلتها؟
أولًا: الإكثار من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: لحديث أوس بن أوس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ثانيًا: قراءة سورة الكهف: فعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين"(رواه الحاكم، وصححه الألباني).
ثم سنن صلاة الجمعة وآدابها كثيرة قد أشرنا إلى جانب منها؛ كالغسل والتبكير والدنو من الإمام والمشي إليها وعدم الركوب والإنصات للخطيب...
***
ونختتم -أيها الأحباب- هذه المقدمة القصيرة بأمر نبوي كريم، يليه تحذير شديد ووعيد أليم، فعن سمرة بن جندب أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وفي لفظ لأحمد: "احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام، فإن الرجل ليتخلف عن الجمعة حتى إنه ليتخلف عن الجنة، وإنه لمن أهلها".
وكل ما ذكرناه هنا، قد فصَّله خطباؤنا وشرحوه، وزادوا عليه وأصَّلوه، فلنترككم مع خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم