اقتباس
ولقد حاول الإسلام الحيلولة دون انتشار الشائعات بكل وسيلة ممكنة، فحرَّم النطق بها وافتراءها بالكذب والبهتان، فقال القرآن الكريم: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء: 112]، وقال...
أكثر هموم الأرض وأحزانها سببها الشائعات، فكم من فتاة أشاعوا أنها منحلة الأخلاق وسيئة السلوك فدمَّر ذلك حياتها فلم يتقدم لخطبتها أحد حتى بارت وفاتها قطار الزواج، أو امرأة أشاعوا أنها على علاقة مع أجنبي حتى طلقها زوجها... وكم من فتى أشاعوا أنه على عوج فما قُبِل في وظيفة ولا استقر في عمل... وكم من أسرة أشاعوا عليها الإشاعات وتقوَّلوا عليها الأقاويل فلفظها الناس وتجنبها القريب والبعيد... وكم من بلدة في دولة لما تناقلوا الشائعات حولها صارت معزولة بين جيرانها حتى كرهتهم وكرهوها...
وهذه امرأة شريفة عفيفة طاهرة مطهرة اتهموها في عرضها وشرفها، وهي من هي، فصدق بعض الناس الأقاويل الكاذبة وتناقلوا الشائعات المغرضة، حتى ركبها الهم وتوسدها الحزن وصاحبها الدمع فصارت لا ترقأ لها عين، وما أنقذها من غمها وهمها إلا آيات القرآن تتنزل: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...)[النور: 11].
وهذا شاب غض كريم عفيف أشاعوا عليه عمدًا أنه راود زوجة من آواه وأطعمه عن نفسها، حتى تسبب ذلك في سجنه سنوات وسنوات مع أنه نبي كريم يشهد له كل من رافقه بالخير والبر والإحسان وبتأويل الأحاديث، إنه نبي الله يوسف -عليه السلام-.
وهذه عفيفة أخرى قال عنها اليهود زانية، وسماها القرآن "صِدِّيقة"، وألمح لها قومها فيما يقارب التصريح قائلين: (يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[مريم: 28]، فأنقذها الله -عز وجل- بمولودها الذي تكلم في المهد، قال -تعالى-: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)[مريم: 29-30].
ومن العجيب أن يُصَدِّق الناس كلام مومس بغي تسعى بفرجها، ويُكذِّبون العابد الزاهد التقي الورع الذي اعتزل الحياة بملذاتها ليتفرغ لعبادة الله -سبحانه وتعالى-، والذي كانوا يشهدون له جميعًا بالصلاح والعفاف! فيروي أبو هريرة -رضي الله عنه- فيقول: "كان جريج يتعبد في صومعة، فجاءت أمه فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت، ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني، قال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته، فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن.
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلامًا، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير، قال فجاءوا بفئوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه، قال فتبسم، ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا، ولكن أعيدوه ترابًا كما كان، ثم علاه(متفق عليه).
وهذه شائعة كادت تُحدِث كارثة في غزوة أحد، حيث أشاعوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فقعد أناس من الصحابة عن القتال محبطين يائسين، يُحدِّث القاسم بن عبد الرحمن بن رافع فيقول: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استقبل فقاتل حتى قتل(السيرة النبوية، لابن كثير).
وهكذا دائمًا أبدًا تستعبد الشائعاتُ مصدقيها، وتردي الشائعاتُ مروجيها، وتحزِن الشائعاتُ المقصودين بها، وتتسبب الشائعات في الكوارث والبلايا والمصائب والهموم والأحزان...
***
ولقد حاول الإسلام الحيلولة دون انتشار الشائعات بكل وسيلة ممكنة، فحرَّم النطق بها وافتراءها بالكذب والبهتان، فقال القرآن الكريم: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء: 112]، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور: 23].
وحرًم الإسلام التكلم بكل خبر ليس عليه دليل، خاصة إن كان طعنًا في أعراض الناس، قال -تعالى-: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[النور: 16-17]، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بئس مطية الرجل زعموا"(رواه أبو داود).
وفي وجهة نظر الإسلام من نطق بالكلام بلا تثبت ولا تحقق فقد وقع في الكذب، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"(رواه مسلم).
وتتعاظم الحرمة حين ينقل المرء الكلام وهو يغلب على ظنه أنه من الكذب، فعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكذابين"(رواه مسلم وأحمد واللفظ له).
***
ولقد انتبه لخطورة الشائعات وما تُحدِثه في المجتمعات من مآسي فئام من خطبائنا، فثاروا يخوفون الناس من تناقلها، ويحذرونهم من إطلاقها وترويجها، ويأمرونه بالتثبت قبل التكلم... وهاك بعض خطبهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم