اقتباس
وأخيرًا فإننا نقرر في وضوح أنه كما للمعاهدين والمستأمنين حقوق في رقابنا، فإن عليهم واجبات تجاه الدولة التي يقيمون على أرضها، فمنها: ألا يتجسسوا عليها ويَدُلُّوا أعداءها على عوراتها فيكونوا كالشوكة في ظهرها...
لأن الإسلام هو دين السماحة الذي بعث الله -تعالى- به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، فإنه يسمح لغير المسلمين أن يعيشوا في الدولة الإسلامية، وأن يدخلوا إليها لقضاء مصالحهم أو زائرين أو مستجيرين، ووفقًا لهذا تتنوع أصنافهم:
فمنهم الذميون: وهم من يستوطنون بلاد المسلمين وتجري عليهم أحكام الإسلام.
ومنهم المعاهدون: وهم من عقدت دولتهم صلحًا مع المسلمين.
ومنهم المستأمنون: وهم الحربيون الذين يدخلون إلى بلاد المسلمين بأمان مؤقت، يقول الله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة: ٦].
وأحكام التعامل معهم كثيرة، فمنها:
أولًا: العدل معهم؛ فالعدل مبدأ إسلامي شامل لجميع البشرية بغض النظر عن اللون أو الجنس أو النوع أو الدين أو الوطن قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: ٨]، وقصة الفاروق عمر بن الخطاب الذي اقتص للرجل القبطي من واليه على مصر عمرو بن العاص وولده مشهورة معروفة.
بل يروي سليمان بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رواحة، فيخرص بينه وبين يهود، قال: فجمعوا له حليًا من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، قال ابن رواحة: "يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما الذي عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها"، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض(رواه مالك في الموطأ).
ثانيًا: البر بهم؛ ينص على هذا قول الله -تعالى-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: ٨].
وهذا يتضمن جواز الإهداء لهم، وقبول هديتهم، وقد عقد البخاري بابًا بعنوان: "باب قبول الهدية من المشركين"، و يتضمن كذلك عيادة مرضاهم، وحسن ضيافتهم، فعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم، صلي أمك"(متفق عليه)، وعلق النووي قائلًا: "وفيه جواز صلة القريب المشرك"(شرح النووي على مسلم).
ثالثًا: تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه؛ وهذا من تمام برهم والإحسان إليهم والرحمة بهم؛ ففيه نجاتهم من النار ودخولهم الجنة، فعند مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
رابعًا: حرمة دمائهم وأموالهم ووجوب حمايتهم؛ وقد تضافرت النصوص الشرعية على وجوب ذلك؛ فعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "...ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"(رواه النسائي في الكبرى)، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا"(متفق عليه)، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: "ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة"(رواه أبو داود).
خامسًا: حل ذبائح أهل الكتاب منهم والتزوج منهم: يقول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ)[المائدة: ٥]، "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين"(تفسير ابن كثير).
ويفرِّق القشيري بين الأكل والنكاح قائلًا: "وأحل الطعام والذبيحة بيننا وبينهم من الوجهين فيحل لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يعلى"(تفسير القشيري).
***
لكن يجب التنبه ونحن نعطيهم حقوقهم ونبرهم ألا نغفل أمرين مهمين:
أولهما: أن نتبرأ من دينهم وعقيدتهم ومحبتهم وموالاتهم؛ فقد أعلمَ القرآن العالمين قائلًا: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)[التوبة: ٣]، وأمر الله -تبارك وتعالى- قائلًا: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: ٢٨]، وقائلًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة: ٥١].
وثانيهما: الحذر من التشبه بهم: فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم"(رواه أبو داود)، ويقول: "ليس منا من تشبه بغيرنا"(رواه الترمذي).
***
وأخيرًا فإننا نقرر في وضوح أنه كما للمعاهدين والمستأمنين حقوق في رقابنا، فإن عليهم واجبات تجاه الدولة التي يحيون على أرضها، فمنها: ألا يتجسسوا عليها ويَدُلُّوا أعداءها على عوراتها فيكونوا كالشوكة في ظهرها.
ومنها: ألا يعملوا على نشر دينهم وملتهم والدعوة إليها، فإنهم على باطل ومآل من مات منهم على باطله الخسار والبوار؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم القيامة دفع الله -عز وجل- إلى كل مسلم، يهوديًا أو نصرانيًا، فيقول: هذا فكاكك من النار"(رواه مسلم).
ومنها: ألا يجاهروا بما يضاد تعاليم الإسلام ومبادئه وأصوله، بل يستتروا بذلك في دور عبادتهم.
ومنها: ألا يسيئوا إلى المسلمين وإلى قرآنهم ورسولهم -صلى الله عليه وسلم- وسنته...
وحول ذلك كله وغيره تدور مختارة اليوم، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم