اقتباس
ومن جملة ما قدَّره الله -تعالى- في هذه الأرض تعاقب فصول السنة الناتج عن دوران الأرض حول الشمس؛ فربيع يليه صيف يليه خريف ثم يأتي فصل الشتاء، الشتاء ذلك الفصل الذي اختصه الله -عز وجل- في بلادنا بنزول المطر، وبقلة ظهور الشمس، وبالسحب التي تملأ السماء، وبتناقص درجات الحرارة الذي يشعرنا بذلك الزمهرير والبرد القارس... ولقد نتج عن هذه الخصائص المناخية الخاصة أحكام فقهية خاصة بفصل الشتاء...
الله -عز وجل- هو ملك الملوك وهو مالك الملك، وكل الكون ملكه ولا شريك له في شيء من ملكوته، يدبر الأمر ويجري الرياح ويسخر البحر وينزل المطر ويسوق الأفلاك ويقلب الليل والنهار...
وكل ما في الكون من أحداث تقع إنما هي بأمر الله وبقدرته وبإذنه وتقديره، ومن جملة ما قدَّره الله -تعالى- في هذه الأرض تعاقب فصول السنة الناتج عن دوران الأرض حول الشمس؛ فربيع يليه صيف يليه خريف ثم يأتي فصل الشتاء، الشتاء ذلك الفصل الذي اختصه الله -عز وجل- في بلادنا بنزول المطر، وبقلة ظهور الشمس، وبالسحب التي تملأ السماء، وبتناقص درجات الحرارة الذي يشعرنا بذلك الزمهرير والبرد القارس، وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلـم- عن علته، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قالت النار: رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد، أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر، أو حرور فمن نفس جهنم"(متفق عليه).
ولقد نتج عن هذه الخصائص المناخية والجوية الخاصة بفصل الشتاء أحكام فقهية خاصة -في الأغلب الأعم- به وحده، وهاك بعض تلك الأحكام: أولًا: الصلاة في البيوت في اليوم المطير: وهذا من يسر ديننا وسماحته ورفعه للحرج والمشقة، فيروي نافع عن ابن عمر أنه أذَّن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: "ألا صلوا في الرحال"، ثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر، يقول: "ألا صلوا في الرحال"(متفق عليه)، فالمطر الشديد عذر للتخلف عن صلاة الجماعة، تخفيف من الله ورحمة منه -سبحانه-.
ثانيًا: الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة: فكم قد نصح الصحابة والتابعون باغتنام أيام الشتاء القصيرة بالصيام، بل حث على ذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فعن عامر بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء"(الترمذي، وصححه الألباني). وكما ينصحون بصيام نهار الشتاء لقصره، فإنهم أيضًا ينصحون بقيام ليله لطوله، فهذا عبيد بن عمير كان يقول إذا جاء الشتاء: "يا أهل القرآن طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصيامكم، فاغتنموا"(مصنف ابن أبي شيبة)، وأنا أضم صوتي إلى أصواتهم جميعًا وأدعو المسلمين في هذا الشتاء: أن قوموا ليله وصوموا نهاره.
ثالثًا: -وهي مسألة عقدية- فالمطر نعمة من الله وفضل منه لا يحل أن ينسب إلا لله، ونسبتها لغير الله -تعالى- إشراك به -والعياذ بالله-، فعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب"(متفق عليه).
فالمطر نعمة من أجل نعم الله، نحمد عليها الله -عز وجل- وحده لا شريك له، وهي نعمة ربما لا تفضلها نعمة أخرى، اللهم إلا نعمة إقامة حدود الله -تعالى- في الأرض، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حد يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا"(ابن ماجه، وحسنه الألباني).
رابعًا: في برد الشتاء يعظم أجر بعض الطاعات: فمن خرج إلى الصلاة في المسجد -مثلًا- في البرد القارس وفي الأمطار وفي الأرض الموحلة فإن أجره -إن استوى الإخلاص- أعظم من أجر من جاء إلى الصلاة في غير هذه الأحوال الصعبة، والقاعدة في ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم المؤمنين عائشة: "إن لك من الأجر على قدر نصبك"(الحاكم في مستدركه وصححه). ومن الأعمال التي تُغفر بها الذنوب وتُرفع بها الدرجات بسبب برد الشتاء: الوضوء؛ فإنه في برد الشتاء أشق، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء على المكاره..."(مسلم)، فمن أشد المكاره في الوضوء أن يكون الماء باردًا مع الجو البارد.
بل لقد جاء من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- تعيين وتحديد هذه المكاره بالبرد الشديد، فعنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني ربي -تبارك وتعالى- في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟، قال: قلت: في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات والدرجات؟ قلت: إسباغ الوضوء في السبرات..."(مسند البزار، وصححه الألباني)، والسبرات جمع سبرة وهي: شدة البرد. ومن الفوائد التي ذكرها العلماء تعليقًا على هذا الحديث: أن "تسخين الماء لدفع برده ليقوى على العبادة لا يمنع من حصول الثواب المذكور"(الكوكب الوهاج، محمد الأمين الهرري، وغيره)، فضل من الله ونعمة.
خامسًا: طين الشوارع طاهر: ففي الشتاء ومع نزول المطر يكثر في الشوارع الوحل والطين، وهو من الطهارات، فيجوز لمن أصاب ثيابه شيء منه أن يصلي به دون أن يزيله، ففي فتح الباري لابن رجب: "أن الصحابة كانوا يخوضون الطين في الطرقات ولا يغسلون أرجلهم"( فتح الباري، لابن رجب).
و"من تسهيلات المبعوث بالحنيفية السمحة بالمشي حافيًا في الطرقات ثم يصلي ولا يغسل رجليه، فقد قال أبو الشعثاء: كان ابن عمر يمشي بمنًى في الفروث والدماء اليابسة حافيًا، ثم يدخل المسجد فيصلي ولا يغسل قدميه، وقد كان الناس في عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين وبعدهم يأتون المساجد حفاة في الطين.
قال يحيى بن وثاب: قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ يخرج إلى المسجد حافيًا؟ قال: "لا بأس"، وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد يصلون"... قال ابن المنذر: "وطئ ابن عمر بمنًى وهو حاف في ماء وطين، ثم صلى ولم يتوضأ"، قال: وممن رأى ذلك: علقمة، وعبد اللَّه بن مغفل، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو حنيفة، ومالك"( شرح سنن أبي داود، لابن رسلان).
سادسًا: الجمع في الحضر لعذر المطر: أما عن الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المطر، فقد قال الإمام الخطابي: "وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للممطور في الحضر فأجازه جماعة من السلف، روي ذلك عن ابن عمر، وفعله عروة وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة وعامة فقهاء المدينة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، غير أن الشافعي اشترط في ذلك أن يكون المطر قائمًا وقت افتتاح الصلاتين معًا، وكذلك قال أبو ثور ولم يشترط ذلك غيرهما.
وكان مالك يرى أن يجمع الممطور في الطين وفي حال الظلمة، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي يصلي الممطور كل صلاة في وقتها"(معالم السنن، للخطابي).
سابعًا: صلاة الاستسقاء: فإنه إذا جاء الشتاء ولم ينزل المطر شُرِع لنا أن نصلي صلاة الاستسقاء، فعن عباد بن تميم أن عمه وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى، فاستسقى واستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ركعتين"(متفق عليه).
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن المجاعة ليست ألا ينزل المطر من السماء كما يظن بعض الناس، ولكن أن ينزل ولا يخرج به الزرع، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليست السنة بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئًا"(رواه مسلم).
ثامنًا: المسح على الخفين: وإن كان لا يختص بالشتاء وحده، إلا أن الحاجة إليه في الشتاء أشد، فعن عروة بن المغيرة بن شعبة، يحدث عن المغيرة بن شعبة، "أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين"(متفق عليه). وأما عن مدة هذا المسح، فقد روى شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألناه، فقال: "جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم"(رواه مسلم).
وما هذه إلا مجرد نماذج قليلة لأحكام الشتاء، ونترك الساحة الآن لإخواننا الخطباء ليؤصلوا الأمر ويزيدوه وضوحًا، ويستقصوا المسائل الخاصة بفصل الشتاء، فدونكم بعض خطبهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم