الشتاء: حِكَم وأحكام

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2011-12-16 - 1433/01/21 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/سمات فصل الشتاء وخصائصه 2/العبادة في فصل الشتاء 3/الصبر والاحتساب على أمراض الشتاء 4/توقي مشكلات الشتاء الصحية والجوية 5/أحكام فقهية متعلقة بفصل الشتاء.

اقتباس

فالمرض يذكِّر الإنسان ضعفه وعجزه؛ فيلجأ إلى القوي القادر ليذهب عنه سقمه وألمه، فيعرف الإنسان حينذاك أنه عبد لمعبود حق، وأنه مفتقر إليه معتمد عليه، وأن قضاء حوائجه، وتفريج كرباته، وتحصيل راحته وسعادته لا يكون إلا عن طريق التجائه إلى مولاه، وسعيه في سبيل مرضاته.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

 

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد: أيها المسلمون، لقد أقبل علينا فصل الشتاء يحمل معه شدة البرد، وكثرة المرض، وصعوبة الحركة، وقلة الإنتاج. وهذه مضار لكن مع المضار منافع للبشرية لا تتحقق إلا في فصل الشتاء، ولا تتم إلا في ظل البرد.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "تأمل أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفاً كله لفاتت منافع مصالح الشتاء، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعاً كله، أو خريفاً كله، ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر، ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر، والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها، واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تتحرك الطبائع، وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل".

 

عباد الله: في فصل الشتاء يسخن جوف الإنسان، ويبرد في الصيف؛ لأنه في الشتاء يكون بارداً، فيبرد ظاهر البدن، فتهرب الحرارة إلى باطن البدن؛ لأن الضد يهرب من الضد؛ ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء؛ لسخونة الظواهر، فتهرب البرودة إلى الأجواف.

 

ومن حكم الله أن نبات وفواكه الشتاء لو أكلت في الصيف أو العكس لربما أضرت بالبدن وسببّت له الأذى، فسبحان الخالق الحكيم.

 

معشر المسلمين: إن محبي العبادة المكثرين منها يفرحون بقدوم الشتاء؛ لأنه موسم للازدياد من الطاعة ليلاً ونهاراً، وموعد للراحة في التمتع بطول ملازمتها.

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مرحباً بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول الليل للقيام، ويقصر النهار للصيام".

 

وحينما حضرت الوفاة معاذاً -رضي الله عنه- بكى، وقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب على حِلَق الذِّكْر".

 

إن زمن الليل في فصل الشتاء يمتد ويبارك فيه؛ فهو بذلك فرصة لتطويل صلاة الليل، مع أخذ الجسم حظه الكافي من النوم، وللروح بعد ذلك أن تحلِّق في آفاق القيام ما شاءت.

 

قال -تعالى-: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17، 18].

 

والشتاء فصل ملائم لعبادة الصيام؛ لأن نهار الشتاء بارد لا يحس الإنسان فيه بشدة الظمأ، وألم الجوع، وضنك التعب، ولأن النهار في الشتاء أيضاً يمضي سريعاً؛ لقصر زمانه فيه.

 

وهذا كله يعين المسلم الحريص على الصيام أن يكثر منه، ويداوم عليه؛ لتحصيله الأجر بلا تعب ولا مشقة كبيرين. ولذلك جاء في الحديث: "الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة"(رواه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني، وهو حسن).

 

قال بعض العلماء: "إنما وصفها بالبرد؛ لأن الغنيمة إنما أصلها من أرض العدو ولا تنال ذلك إلا بمباشرة الحرب والاصطلاء بحرها، يقول: فهذه غنيمة ليس فيها لقاء حرب ولا قتال".

 

أيها المسلمون: إذا جاء فصل الشتاء كثرت فيه أمراض الزكام و الحمى والصداع، وغير ذلك. ولكن الإسلام يعلمنا ما يخفف عنا وقع هذه الأمراض وآثارها، فيعلمنا التفاؤل عند المكاره؛ لأن المكاره قد تحمل معها المحابّ والمسارّ. قال -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].

 

فما يحمله الشتاء من العناء -ويختلف ذلك باختلاف الأماكن شدةً وخفةً- في طياته منافعُ للأرواح وللأبدان، فكم زُرعتْ في الشتاء من خيرات، وجُنيت من حسنات، ومُحيت من سيئات، لدى من جدّ وسعى وتفكر!. وكم عوفيت من أبدان بتلك الأمراض، وربما صحت الأجسام بالعلل!.

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها، وكثير من الأمراض إذا عُرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب. وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة؛ فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة".

 

فالمرض يذكِّر الإنسان ضعفه وعجزه؛ فيلجأ إلى القوي القادر ليذهب عنه سقمه وألمه، فيعرف الإنسان حينذاك أنه عبد لمعبود حق، وأنه مفتقر إليه معتمد عليه، وأن قضاء حوائجه، وتفريج كرباته، وتحصيل راحته وسعادته لا يكون إلا عن طريق التجائه إلى مولاه، وسعيه في سبيل مرضاته.

 

فلو بقي الإنسان قوياً بلا ضعف، قادراً لا يطرأ عليه العجز، صحيحاً لا يزوره المرض لطغى وبغى وتجبر وتكبر، فجاء المرض ليعرِّفه حقيقة نفسه، وحق ربه عليه.

 

وعلمنا الإسلام -عند تلك الأمراض- أن نواجهها بالصبر والاحتساب، فمن صبر ورضي خف ألمه، وسهل سقمه، وقوي أمله بما ادخره الله له؛ جزاء تسليمه لقضائه وقدره، فحين ذلك ينسى الوجع بسبب الموعود المنتظر. بل قد يجد بعض الراضين المؤمنين لذات في عنفوان الآلام والأسقام لا يجدونها أيام العافية، والعامل النفسي له أثره على ما يَرِد إلى البدن من مسارّ أو مضارّ.

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلمَ من نصَب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"(رواه البخاري).

 

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله ونفسه حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة"(رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح).

 

 

عباد الله: والإسلام يعلّمنا -كذلك- الحِميَةَ والابتعاد عن مظان الداء، وأسباب البلاء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"(رواه البخاري). وهذا الحديث قاعدة في الوقاية عن مخالطة أصحاب الأمراض المعدية، مع الاعتقاد بأن كل شيء يجري بقضاء الله وقدره.

 

ويعلمنا الإسلام أيضاً فعل الأسباب الممكنة في دفع ضرر شدة البرد كالاستدفاء والاحتماء والاستشفاء؛ فقد أنعم الله على الإنسان بما يقيه البردَ من ملابس وفرش وأغطية وأردية مُعدَّة لذلك، إضافة إلى البيوت والمساكن التي يتحصَّن بها، ويأوي إليها. وفي عصرنا الحاضر بلغت هذه النعمة مبلغاً كبيراً في جودتها وتوفرها وتمام الانتفاع بها لدفع أذى الشتاء.

 

 يقول الله –تعالى-؛ ممتناً على عباده: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)[النحل: 80، 81].

 

إخواني الكرام: إن صيام رمضان يذكر الصائم آلام الجائعين، وحاجة الفقراء والمساكين، ومجيء الشتاء -كذلك- يُذكّرنا بما أنعم الله علينا من وسائل الدفء والحماية من إيذاء البرد. وفي ظل ذلك علينا أن نتذكر إخواناً لنا يعانون شراسة البرد وتبعاته، وآلامه ومضراته، هجم عليهم البرد بخيله ورجِله فخلف من بينهم بلايا وضحايا، حينما لم تكن لهم بيوت واقية، وملابس كافية، وأطعمة الخاصة التي تعطيهم طاقة وحرارة تحجز عنهم بعض سهام البرد الحادة، بل لقد وجدت حالات مأساوية لبعض الأسر الفقيرة التي مات بعض أطفالها أيام شدة البرد.

 

أخي المسلم المليء: إذا كان لديك ملابس شتوية تقيك البرد من أخمص قدميك إلى هامة رأسك، فتذكر أن هناك أجساماً مُسلمَة لباسها الصيفي الرقيق هو لباسها في الشتاء البارد، وإذا كان عندك فرش وثيرة وأغطية كثيفة كثيرة فتذكر من ليس معه من ذلك شيء، أوْ له شيء منه ولكن لا يكفيه وأسرته، فتصدق مما أعطاك الله؛ إن الله يجزي المتصدقين.

 

إخوةَ الإسلام: إن في أيام الشتاء عبراً وعظات لمن أراد أن يتعظ ويعتبر؛ فريح الشتاء تذكر الإنسان أن الله عذّب قوماً بها، وهم قوم عاد؛ نصراً لنبيه هود -عليه السلام-، ومن معه من المؤمنين. قال -تعالى-: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)[الحاقة: 6 - 8].

 

وردّ الله بها كيد الأحزاب التي تحزّبت لغزو المدينة؛ نصراً لرسول الله محمد -عليه الصلاة والسلام-، ومن معه من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزاب: 9]، وقال: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب: 25].

 

وفي هاتين الريحين -الريح التي أهلكت عاداً، والريح التي ردت كيد الأحزاب- يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "نُصرت بالصَبا وأُهلكتْ عاد بالدَّبور"(متفق عليه).

 

عباد الله: إن الريح جندي من جنود الله مسخَّرة بأمره لما يشاؤه -سبحانه وتعالى-، فقد تُرسَل بالرحمة، وقد تُرسَل بالعذاب؛ ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى أو سمع هبوب الريح عُرفت الكراهية في وجهه؛ خشية أن تكون عذاباً أُرسل إلى أمته، وهذا من رحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام- بأُمَّته كما وصفه الله -تعالى- بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].

 

فلأجل هذا يُستحب للمسلم أن يسأل الله خيرها ويستعيذ به من شرها، ولا يجوز له سبّها أو لعنها، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشرما فيها، وشر ما أرسلت به"(رواه مسلم).

 

وروى البخاري في الأدب المفرد وأحمد في مسنده وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أخذت الناس الريح في طريق مكة وعمر حاج فاشتدت، فقال عمر: لمن حوله ما الريح؟ فلم يرجعوا بشيء، فاستحثثت راحلتي فأدركته فقلت: بلغني أنك سألت عن الريح، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الريح من رَوْح الله -أي: من رحمته بعباده- تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب؛ فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، وتعوذوا من شرها".

 

وعن ابن عباس أن رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فلعنها - فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنها؛ فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه"(رواه أبو داود، وهو صحيح).

 

معشر المسلمين: إن برد الشتاء يذكرنا ببرد جهنم، نسأل الله أن يقينا عذابه يوم يبعث عباده، نعم، هناك برد في جهنم، ولكنه برد عذاب لا برد نعيم على أهل الحرارة واللهيب. قال الله -تعالى-عن أهل الجنة-: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الإنسان: 13]، بخلاف أهل النار فإنهم يرون الشمس والزمهرير.

 

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير"(متفق عليه).

 

قال ابن رجب -رحمه الله-: "وقد جعل الله -تعالى- ما في الدنيا من شدة الحر والبرد مُذكِّرًا بحرّ جهنم وبردها، ودليلاً عليها؛ ولهذا تستحب الاستعاذة منها عند وجود ذلك".

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)[ص: 57]: "الغساق: الزمهرير البارد، الذي يُحرق من برده".

 

نسأل الله العفو والعافية، والوقاية والحماية من كل أذى في الدنيا والآخرة.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي وسع كلَّ شيء رحمة وعلماً، وتبارك الذي أسبغ على عباده عفوَه كرماً وحلمًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين.

 

أما بعد: إخواني الكرام، هناك أحكام فقهية يحتاجها المسلم كلَّ وقت، ولا سيما في فصل الشتاء، وهذه الأحكام تتعلق بعباداته خاصة عبادةَ الصلاة التي هي عبادة مستمرة فرضها ونفلها في الليل والنهار، فجدير بالمسلم أن يتفقه فيها، ويستفيد من معرفتها لامتثالها؛ لكي يعبد الله على علم وبصيرة، ولتتيسر له العبادة في أوقات الشدة.

 

فمن سمات هذه الشريعة الغراء: اليسر ودفع المشقة عن المكلفين، قال الله -تعالى-: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185]، وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثت بالحنيفية السمحة"(رواه أبو داود، وهو صحيح). وفي صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".

 

ومن غايات هذه اليسر في العبادات: أن يظل المسلم على اتصال بالعبادة التي هي سبب انشراح صدره وراحة نفسه، وحصول أُنسه، فلا ينقطع عنها عند ورود المشقة في صفة معينة، وكيفية واحدة، فلو شقّت هيئة تيسرت هيئة أخرى. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"(رواه البخاري).

 

عباد الله: إن الصلاة مناجاة لله -تعالى- ووقوف بين يديه ومخاطبة له، فتحتاج إلى طهارة ونقاء، والماء أفضل وسائل الطهارة وأنقاها، وفي أوقات شدة برد الشتاء قد يشق استعمال الماء غير المسخن للوضوء أو الاغتسال، فمن استطاع تحمّل مشقة الوضوء أو الغسل الكاملين في شدة البرد ثم انتصر على نفسه وهواه فخرج للصلاة في بيوت الله -تعالى- فقد عمل عملاً عظيماً يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، ويجلب له الحسنات.

 

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط"(رواه مسلم).

 

وإذا كان أجر الذاهبين للصلوات في الظلمات كبيراً كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بشر المشّائين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"(رواه أبو داود والترمذي، وهو صحيح).

 

فلا يمتنع فضل الله وكرمه عن أن ينال المشائين إلى بيوت الله في شدة البرد التاركين للدفء والفراش الوثير، والله -تعالى- أكرم وأعلم.

 

وأما من لم يستطع -بصدق- تحمُّل هذه المشقة في الطهارة من الحدث الأصغر أو الأكبر فقد خفَّف الله -تعالى- عنه حيث شرع له استعمال التراب بدل الماء، فقام التيمم مقام الوضوء والغسل.

 

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].

 

عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب"؟!. فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29]، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئًا"(رواه أبو داود وأحمد والبيهقي، وهو صحيح).

 

والتيمم طهارة حكمية تعبدية ليس الغرض منها تغبير الوجه والكفين، بل المقصود امتثال أمر الله في هذا التيسير والتخفيف؛ ولذلك لم تكن لكل الجسم مكان الغسل، ولا لكل الأعضاء مكان الوضوء، بل هي ضربة واحدة على الصعيد الطيب ومسح للوجه والكفين مرة واحدة، كما جاء في الآية السابقة وفي الأحاديث النبوية الشريفة أيضاً.

 

عباد الله: ومن تيسير الله -تعالى- لدفع مشقة البرد في التطهر: جواز المسح على ما يغطي القدمين من خفاف وجوارب وما يقوم مقامهما كالشرابات بدلاً عن غسل القدمين في الوضوء، وهذا التخفيف عن الأمة ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله ومن فعله، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "حدثني سبعون من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رسول -صلى الله عليه وسلم- كان يمسح على الخفين".

 

وحدَّث إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل؟ فقال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صنع مثل هذا، فقال إبراهيم: فكان يعجبهم حديث جرير؛ لأن جريراً كان من آخر من أسلم(متفق عليه).

 

ومعنى قول إبراهيم هذا: الدلالة على أن جواز المسح على الخفين باق ولم ينسخ بآية الوضوء في المائدة، والتي فيها وجوب غسل الرجلين؛ لأن جريراً -رضي الله عنه- أسلم بعد نزولها، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح عليهما.

 

غير أن المسح على الخفين له شروط حتى يكون مسحاً صحيحاً، فأول هذه الشروط: أن يكون الخفان أو ما يقوم مقامهما طاهرين غير نجسين، والثاني: أن يدخل المتوضئ خفيه على طهارة، بمعنى: أن يتوضأ ثم يلبس بعد الوضوء، والثالث: أن يكون المسح من الحدث الأصغر لا الأكبر، فإذا حصل الحدث الأكبر فلا بد من نزعهما حتى يصيب الماء القدمين، والشرط الرابع: أن يبقى المسح على المدة المحددة شرعاً، وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وتبدأ المدة من أول مسح على القول الراجح من أقوال الفقهاء.

 

وهذا الشروط استُنْبِطَت من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المذكورة في كتب السنة.

 

ومما يصح مسحه للمتوضئ: العمامة الساترة، بدل نزعها والمسح على الرأس، فقد روى ابن حبان وأبو داود وغيرهما عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَسح على ناصيته وعلى العمامة، ثم مسح على خفيه.

 

أيها المسلمون: ومن الأحكام الفقهية المحتاج إليها في الشتاء وفي غيره: أن بعض المصلين يدخل الصلاة وهو مُلثّم أنفه وفاه، وهذا خطأ ينبغي التنبيه عليه، فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه. (رواه أبو داود وابن حبان، وهو حسن).

 

وحكمة ذلك بعد التعبد: أن في فعله تشبهاً بالمجوس عند نيرانهم التي يعبدونها، ونحن مأمورون بمخالفة الكفار؛ ولأن هذا الفعل ليس من الزينة المأمور بأخذها عند الصلاة، كما قال -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]؛ إلا أنه يجوز التلثم لحاجة كمرض أو رائحة كريهة، فلا يكره عند ذلك.

 

إخواني الأفاضل: مما يكثر حصوله أيام البرد: كثرة الزكام، وهو مرض كغيره من الأمراض التي ينبغي الحرص على البعد عن أسبابها، فإذا حصل فالمشروع للمسلم الصبر فيه واحتساب الأجر عند الله -تعالى- عليه، والممنوع سبُّه وإظهار السخط والجزع من حصوله.

 

وهذا المرض -يا عباد الله- يولّد كثرةَ العطاس، والعطاس قد يظن بعض الناس أن لا فائدة منه، وهذا ليس بصحيح؛ فالعطاس نعمة من الله -تعالى- على الإنسان؛ لأنه يحمل على النشاط وخفة الروح، ويُخرج من الجسم مواد محتقنة وفضلات مؤذية يضر بقاؤها البدن.

 

ولهذا شرع الله للعاطس أن يقول: الحمد لله؛ لأنه حصلت له نعمة. وبعض معبري الرؤى يؤولون رؤيا العطاس بتفريج الكربات. ولما كان العطاس بهذه المثابة كان مما يحبه الله -تعالى-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب"(رواه أهل السنن إلا ابن ماجه، وهو صحيح).

 

وحينما كان العطاس نعمة على الإنسان فلا يصح له أن يجعله نقمة على غيره، فعلى العاطس أن يتأدب بآداب العطاس كتغطية الفم والأنف باليد أو المنديل أو الثياب؛ حتى لا يؤذي الآخرين بخروج شيء من أنفه أو فمه، وينقل إليهم العدوى.

 

ومن أدب العاطس: ألا يرفع صوته أثناء عطاسه؛ لأن في ذلك إيذاء وتهييجاً للآخرين على الزكام.

 

فقد روى الحاكم والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه، وغض بها صوته".

 

نسأل الله -تعالى- أن يجعل علينا الشتاء برداً وسلاما، وأن يرزقنا خير ما فيه، ويحمينا شر ما فيه.

 

هذا وصلوا على خير الورى........

المرفقات

الشتاء حِكَم وأحكام.doc

الشتاء حِكَم وأحكام.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات