اقتباس
وبناءً على هذا نقول: إذا تحتم عليك أن تتكلم عن سواك، فتكلم فقط بما رأت عيناك، أو سمعت أذناك، ولا تتحدث بشيء أنت فيه شاك أو مستريب، ولا تخض في أمر إلا ومعك فيك بينة وحجة ودليل وبرهان، فإن لم يكن فاسكت؛ فإن في الصمت حينئذ نجاة، وإن كلامك حينئذ شائعة من الشائعات...
"قالوا" و"يزعمون"، و"سمعت" و"يدعون"، و"ربما" و"لعل"، و"أحسب" و"أخال" و"أظن"... هذه الكلمات وغيرها هي أكثر ما يستخدمه أرباب الشائعات، هي أكثر ما يهدم البيوت، ويفرِّق الأحباب، ويدمر الصداقات، ويُقطِع الموصول، ويمزق المتآلف، ويزلزل المستقر، ويقتلع الثابت...
إنها كلمات تدل على التشكك وعدم التثبت، وهي عكس ما أمرنا الله -عز وجل- به قبل أن نتكلم في أمور الناس: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]، وهي عين ما نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه؛ فقد سئل أبو مسعود -رضي الله عنه- فقيل له: ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: في "زعموا؟" قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بئس مطية الرجل زعموا"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وبناءً على هذا نقول: إذا تحتم عليك أن تتكلم عن سواك، فتكلم فقط بما رأت عيناك، أو سمعت أذناك، ولا تتحدث بشيء أنت فيه شاك أو مستريب، ولا تخض في أمر إلا ومعك فيك بينة وحجة ودليل وبرهان، فإن لم يكن فاسكت؛ فإن في الصمت حينئذ نجاة، وإن كلامك حينئذ شائعة من الشائعات.
***
وكم حدثتنا صفحات الماضي عن التاريخ الأسود للشائعات، وأغلبها يبدأ بكذبة تخرج من لسان فاسق ذو قلب حقود ونفس حسود، وأول من يحدثنا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يحكي لنا قصة عبد صالح سُلطت عليه إحدى البغايا، فلما لم تستطع إغواءه، لجأت إلى سلاح البطالين وهو الإشاعات، فعن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا"(متفق عليه).
ويقص علينا نبينا -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى ما أشاعه اليهود على نبي الله موسى -عليه السلام- فيقول: "إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إلا من عيب بجلده؛ إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)[الأحزاب: 69]"(متفق عليه).
بل لا ننسى أبدًا تلك الشائعة المغرضة التي أشاعوها على مريم العفيفة الطاهرة؛ إذ رموها بالزنا -وحاشاها-: (يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[مريم: 28]، وهم يريدون بذلك أن يقولوا: كيف صرتِ أنتِ امرأة سوء وبغي ولم يسبقك إلى ذلك أحد من أهلك؟!
وسل نبي الله يوسف -عليه السلام- كيف أشاعوا عليه أنه قد راود امرأة العزيز عن نفسها وأراد بها السوء، مع أنهم يعلمون تمام العلم أنه من ذلك براء: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)[يوسف: 26-29].
ولو أننا استطردنا في نقل الشائعات التي أشيعت على مر العصور والسنوات لما وسعتنا الصفحات ولا الأوقات، ولكن بقي لنا أن نتساءل: وما واجبنا نحن تجاه الشائعات إذا ما عايشناها وعاصرناها؟
ولندع القرآن الكريم يجيب هذا السؤال، فقد فصَّل الله -عز وجل- الأمر تفصيلًا حين فنَّد ما أشاعه منافقو المدينة المنورة على أم المؤمنين عائشة الطاهرة الشريفة -رضي الله عنها-؛ فأول واجبات من سمع الشائعات هو:
حسن الظن بمن نُقِل عنه السوء ما دام ظاهره السلامة، يقول -تعالى-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور: 12].
وثانيها: مطالبة من يردد الشائعة بالبينة والدليل على ما قال، فالله -عز وجل- يقول: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النور: 13]، نعم، فمن تكلم في عرض إنسان ولم يأت على ذلك بالدليل والبرهان فهو كاذب، بل لقد وصفه الله -تعالى- فوق كذبه بالفسوق: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6]، فسماه -عز وجل- فاسقًا حتى قبل أن يأمرنا بالتبين.
وثالثها: إلجام اللسان عن النطق بالشائعات، وعدم نقلها ولا إعادتها ولا ترديدها: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[الحجرات: 16].
ورابعها: نهي من يردد الشائعة عن ترديدها؛ لأنه مرتكب لمعصية وناقل للكذب والفسوق وهو يحسبه مجرد هواء يخرج من الفم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].
ولأن الشائعات خطير، ولا يخلو منه مجتمع، ولأنه شديد التدمير والتمزيق للأواصر والصلات، ولأن الشائعات حرب على الأمن والاستقرار... فقد عقدنا هذه المختارة وجمعنا فيها من خطب النابهين محذِّرين ومنذرين من سوء عاقبة مشيعي الشائعات ومرديدها.
التعليقات