عناصر الخطبة
1/حقيقة الشائعات 2/ خطر الشائعات 3/ حكم نشر الشائعات 4/كيفية التعامل مع الشائعاتاقتباس
إنَّ الغالبَ على من ينشرُ الشَّائِعاتِ، أنهم حمقى مُغفلون، لا يَتَرَيَّثُون ولا يَتَثَبَّتُونَ، ولا يراجعون، ولا يتراجعون؛ فَكَمْ من خبر ٍكاذبٍ طاروا به وأذاعوه.. فلمَّا تَجَلَّتْ شَمسُ الحقِيْقَةِ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70]..
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمور مُحدثاتها، وكُلُّ مُحدثةٍ بِدعة، وكُلُّ بِدعةٍ ضلالة، وكُلُّ ضلالةٍ في النَّار.
معاشر المؤمنين الكرام: الكلِمةُ عمارٌ أو دمار.. مَغنمٌ أو مَغرم.. هِدايةٌ أو غِواية.. وما على وجه الأرضِ أقوى ولا أخطرَ من الكلمة إذا أُجيدَ توظِيفُها، فهي القوة المسؤولةُ عن كل حركات البناءِ والهدمِ في التاريخ.. القرآن العظيم كلمة، ورسالة الأنبياء كلمة، وصروح العلم كلمة، وهذا المنبر كلمة، فكم هي عجيبةٌ والله هذه الكلمة: فهي ترتقي حتى تكون أفضلَ الأعمال، كما في الحديث الصحيح: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم... وفي آخر الحديث قال: “ذكر الله”.. وتسفلُ الكلمةُ وتنحطُّ؛ حتى تكونَ شرَّ الأعمال، كما في الحديث الصحيح: “وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِم”.. ومعلومٌ انَّ دخول الجنة بكلمة، ودخولُ النارِ أيضاً بكلمة.
والشائعات: نوعٌ من الكلمات، ولكنها ظُنُونٌ وَتَخَرُّصَاتٌ، وأوهامٌ وتلفيقات، تتناقلها الأفواهُ والجوالات، فتتدحرجُ بينهم ككرة الثلج، تبدأ صغيرةً، لكنها كلما تحركت تضاعفَ حجمها، وتعاظمَ خطرها، حتى تفتك بكل ما يقع في طريقها، أولسنا نراها تُفسدَ في لحظات، ما يُفسدهُ غيرها في سنوات، في صحيح البخاري قال -صلى الله عليه وسلم-: “وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ”.
الشائعات: أوبئةُ مُهلكة، وأخطارٌ موبقة، تسري سريانَ النَّارِ في الهشيم، وتُفسدُ إفسادَ الوباءِ المعدي، كم خربت من ديارٍ وعلاقات، وكم قطعت من رحمٍ وصلات، وكم ولَّدت من خلافاتٍ وعداوات، وكم نَدِمَ الكثيرُ على تصديقِها؛ لكن بعدَ الفوات، وصدق الله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب:60]..
الإشاعات: داءٌ دويّ، وبلاءٌ خفيّ، بسببِها يبرأُ المجرِّمُ، ويُجرَّمُ البريء، في الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: “سَيأتي على الناسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فيها الكَاذِبُ، ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، ويُؤْتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأَمِينُ، ويَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ”. قيل: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: “الرجلُ التَّافِهُ، يتكلَّمُ في أَمْرِ العَامَّةِ”.
الشائعات: من أقوى وأخطرِ وسائلِ التدميرِ للأفراد والمجتمعات.. وكم من رسالةٍ مسمومة، قالت لمرسِلها دعني، وكم من تغريدةٍ ملْغومةٍ هوت بكاتبها في وادٍ سحيق، وكم من شَائِعَةٍ مُلفَّقة، تسببت في وُقُوعِ كَوارثَ محققة، في الحديث المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ”..
ألا وإنَّ أعظمَ الشائعات ضرراً وأشدُّها خطراً، ما كان منها مُستهدِفٌ أمنَ المسلمين في أوطانهم، وخلخلة عقائدهم وأديانهم، وإضعافَ صِلتهم بربهم وخالِقهم، وموهِنٌ لروابط الاخوّةِ فيما بينهم.
ثم إنَّ الغالبَ على من ينشرُ الشَّائِعاتِ، أنهم حمقى مُغفلون، لا يَتَرَيَّثُون ولا يَتَثَبَّتُونَ، ولا يراجعون، ولا يتراجعون؛ فَكَمْ من خبر ٍكاذبٍ طاروا به وأذاعوه.. فلمَّا تَجَلَّتْ شَمسُ الحقِيْقَةِ أَدْرَكوا أَنَّهُم كانوا مطيةً حمقاءَ للأعداء، وأنهم حَمَلُوا إِثْماً مبينا، وأَشاعُوا بهتاناً وزُوْراً عظيماً، وحتى إن ندِموا فبعدَ فَواتِ الأَوانِ، وصدق الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
ولئن كان في ذلك الزمان فاسقٌ واحدٌ هو من يأتي بالأخبار الكاذبة، ويروجُ الشائعاتِ الملفقة، فقد تطورَ الأمرُ إلى هيئاتٍ وإلى منظمات، ومواقعَ مُتخصصةٍ وقنوات، مُهمتها جمعُ البيانات، ودراسةُ المجتمعات، وصناعةُ ونشرِ الشائعات.
إنها -يا كرام- حربٌ إِعلامِيَّةٌ قذرة، ومن أَشَدَّ الأَنوَاعِ خطراً وفتكاً، حربٌ نَاعِمَةً خَفِيَّة، أهدافُها خَبِيثَةٌ ملتوية، وأسلحتُها وقذائِفُها رَسَائِلُ وكَلِمَات، وَصُوَرٌ وَمَقَالاتٌ، وَبرامجُ ومقابلات، وأفلامٌ ومُسلسلات.. تُعدُّ إِعدَادًا مدروساً، وتُخرجُ إخراجاً محبوكاً، فيه من فنون العرض، وقوةِ الطَّرح ما يُبهرُ العقول، ويستميلُ القُلُوب، ويغير القناعات، ويضربُ المجتمعَ ضرباتٍ موجعات، وما لوثاتُ الالحادِ والزندقةِ والتنصير والانتحارِ، والتي عانى منها المجتمع الويلات، عنا وعنكم ببعيد، (فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون) [البقرة:79]، (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الجاثية:7]، (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة:1].
ألا فاعلموا -يا عباد الله- إنَّ إِشاعَةَ المُنْكراتِ مِن أكبر الكبائرِ وأَعظَمِ المُوبِقات، تأمل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور:19]، قالَ العلامة السَّعْدِيُّ رحمه الله: “فَإذَا كانَ هَذَا الوَعِيْدُ، لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ”.. في الحديث الصحيح، َقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ”، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: “يا مَعْشَرَ مَن أسلم بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه، لا تُؤْذُوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَه، ومَن يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه”، الحديث صححه الألباني.. وفي الحديث المُتَّفَقٌ عَلَيهِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصمُتْ”، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “مِن حُسنِ إِسلامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لا يَعنِيهِ”، والحديث صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.. وفي الحديث الصحيح: “المسلم مَن سَلِمَ المُسلمون من لسانه ويده”.
إنها -يا عباد الله- رسائلُ قويةً، وتحذيراتٌ شديدة، نوجهها لكل مَنْ لا يَتَوَرَّعُ عَنْ إِرسالِ المقاطِعِ المحرَّمَةِ، ولكل مفتونٍ إذا سمِعَ خبرًا طارَ به، وسارع لينشُرُه على أوسع نِطاق، ويُفاخِر بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره.. ومع سهولة بلوغ الكلمةِ للآفاق، وتخطِّيها حواجِزِ الزمان والمكان في أجزاءٍ من الثانية، وبلمسة زرٍ واحدة، فيا لهُ من بلاءٍ، وفتنةٍ عمياء، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذلتهُ نفسه، وَمـا مِـنْ كَـاتِـبٍ إِلا سَـيَـْفنَى ** ويُبْقِي الدَهرُ ما كَتَبتَ يَداهُ.. فَـلا تَـكـتُـب بِكَفِّكَ غَيرَ شَيءٍ ** يَـسُـرُّكَ فِيْ القِيامةِ أَنْ تَراهُ.. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) [ق:16].
أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد اللهِ-، وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب) [الزمر:18].
معاشر المؤمنين الكرام: الْمُسْلِمُ الْحَقُّ لا تراه إلا مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، مُنصفٌ مع نفسهِ ومع غيره.. يُحبُّ لغيره ما يُحبُّ لنفسِه، ويكرهُ لغيره ما يكرههُ لنفسِه، ويؤدي إلى النَّاسِ ما يحبُّ أن يؤديهِ النَّاسُ إليه، ويمنعُ عن النَّاس ما يُحبَّ أن يمنعهُ النَّاسُ عنه، ويفعلُ الخيرَ بنفسٍ طيبةٍ مع من يَستحِقهُ ومن لا يَستحِقه، لأنهُ لا يُريدُ إلا وجهَ الله.. ومن يتساءل، وما هو التصرفُ الصحيحُ مع الشائعات، فالجوابُ الحكيم، في كتاب الله الكريم.
وأن أولَ الواجباتِ على من سمع الشائعات هو حُسنُ الظنِّ بمن نُقِلَ عنه السوء ما دامَ ظاهرهُ السلامة، يقول تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:12].
وثانيها: مطالبتهُ بالبينة والدليلِ على ما جاءَ به من شائعات، فالله عزَّ وجلَّ يقول: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور:13]، نعم: من تكلَّم في عرض إنسان، ولم يأتِ على ذلك بالدليل والبرهان، فهو كاذبٌ فتَّان، يستحقُ عقوبةً تردعهُ طولَ الزمان، وتجعله عظةً وعبرةً للقاصي والدان، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) [النور:4].
وثالثها: إمساك اللسان واليدان عن المشاركة في نشر الشائعات: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين) [النور:16].
ورابعها: نهيُ من يرددُ الشائعةَ عن ترديدها؛ لأنها كبيرةٌ من كبائر الذنوب: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15].
وَالمُؤْمِنُ الصادق.. لَهُ ورَعٌ يَحْمِيْهِ مِنْ قَولِ الباطِلِ وَمِنْ سَماعِه. فَلا يَقُولُ إِلا بِعْلْمٍ، ولا يُصدِّقُ إِلا بِبَيِّنَة، ولا يحكُم إلا بيقين، وتأمَّل ما فعله أبو أيوب الأنصاريُّ في التَّعاملِ مع الإشاعةِ، فحين قَالَتْ له أُمُّ أَيُّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَمَ بِهَذا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، فَأنْزَلَ اللهُ عَزّ وجَلّ: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا سُبْحَانَكَ هَـاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16].
والقرآنُ الكريمُ يؤكدُ أنّ كلامَ الانسانِ محفوظٌ عليه، (سَنَكتُبُ ما قَالوا) [آل عمران:181]، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، فإن كان خيراً كوفئَ عليه، قال تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) [المائدة:85]، وإنَّ كان شراً عوقِبَ به، قال تعالى: (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) [المائدة:64] (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد) [فصلت:46].
واللسان ضَمانٌ للإنسان؛ ففي الحديث الصحيح: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمنْ لهُ الجَنَّة”.. ولذلك قال الصحابي عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: “ما تكلمت بكلمةٍ منذ بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مزمومةً مخطومة”.
فحقٌّ على من أرادَ السلامةَ لنفسه ولمجتمعه أن يُراقبَ نفسَهُ قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يُرسلَ رِسالتهُ، أو يَخُطَّ مَقالَته.. نعم: ليسأل المرسلُ نفسهُ: هل المصدرُ موثوق، وهل الخبرُ مؤكدٌ وصحيح، هل المصلحةُ راجحةٌ في نشره، فإن رابهُ أدنى شكٍّ فليتوقف، فإنَّ السلامةَ لا يعدلها شيء، واللهُ تعالى يقول: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83]، قالَ العلامة السَّعْدِيُّ رحمه الله: “وأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْهُمْ: هم أَهْلُ الرَأَيِ، وَالعِلْمِ والنُّصْحِ والعَقْلِ والرَّزَانَةِ، الذيْنَ يَعْرِفُونَ الأُمُوْرَ وَيَعْرِفُوْنَ المصَالحَ وَضِدَّهَا. فَإِنْ رَأَوْا في إِذَاعَتِهِ مَصْلَحةً فَعَلُوا، وإِنْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فيهِ، لم يفعلوا”.. واللهُ -جلَّ وعلا- يقولُ أيضاً: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء:36]؛ أي لا تَتحدث عمَّا لَيْسَ لَك بهِ عِلْم، ولا تَنْقُلْ مِن الأَخبارِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علم، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36].
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -يا عباد الله-، وَلا نتساهل بأمر الشَّائِعَاتِ، ولا يُغرينا سهولةَ نشرها عبر الجَوَّالاتِ، فإنها آثَامَ وسيئات، تَتَراكمُ لأيامٍ وشهورٍ وسنوات، يعقُبها ألمٌ وندمٌ وحسرات، في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: “من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثلِ أجورِ من تبعه، لا ينقصُ من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلَ آثامِ من تبعه، لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئًا”، تأمل: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور:24]، وقال تعالى: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون) [النحل:25].
فيا ابن آدم عِش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صل على محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم