اقتباس
لكن السحر وإن كان حقيقة ثابتة، إلا أن تأثيره وضرره موقوف على إذن الله -تعالى-، فإن أذن وقع السحر، وإلا فلا: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، فالسحر لا يضر بذاته ونفسه، بل بتقدير الله -تعالى- وأمره: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)...
يتساءلون: هل للسحر حقيقة؟ وهل هو موجود أصلًا؟ أم أنه خرافات وترهات وأساطير من موروثات الأقدمين؟!
وإجابة هذا السؤال محسومة عند كل مسلم موحد من أهل السنة والجماعة: نعم، إنه موجود وله حقيقته وتأثيره، قد ثبت هذا بالقرآن الكريم وبالسنة المطهرة وبالإجماع وبالواقع والمشاهدة...
فأما القرآن الكريم: فيقول الله -تعالى-: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[القرة: 102]، قال القرطبي في تفسيره: "جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر -تعالى- أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة".
وأما السنة والواقع معًا، فيكفي أن نقول أن السحر قد أصاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان"، فأتاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين"، قلت: يا رسول الله: أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرًا"(متفق عليه).
وقوله: "قد عافاني الله"؛ أي: شفاني "والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقًا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله -تعالى- ورسوله على وجوده ووقوعه.
وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق، ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله"(تفسير القرطبي).
***
لكن السحر وإن كان حقيقة ثابتة، إلا أن تأثيره وضرره موقوف على إذن الله -تعالى-، فإن أذن وقع السحر، وإلا فلا: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 102]، فالسحر لا يضر بذاته ونفسه، بل بتقدير الله -تعالى- وأمره.
والمؤمن يوقن أنه لن يضره إلا الله ولا ينفعه إلا الله -عز وجل-، وأنه لن يحدث له إلا ما قدَّره الله عليه: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[التوبة: 51]، وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "...واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
ولقد علمنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"(رواه البخاري)... وللسحر كذلك دواء وعلاج وشفاء، وأعظم علاجاته:
الإخلاص لله -تعالى- والإلتجاء إليه: كما صنع أيوب -عليه السلام- حين أصابه البلاء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)[الأنبياء: 83-84]، وهي قاعدة عامة ثابتة صادقة تقول: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام: 17].
وثانيًا: قراءة القرآن الكريم بنية الشفاء: فالله -تعالى- يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]... ونخص من القرآن سورة الفاتحة؛ فعن أبي سعيد الخدري أن ناسًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ الرجل، فأعطي قطيعًا من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم وقال: "وما أدراك أنها رقية؟"، ثم قال: "خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم"(متفق عليه).
وكذلك سورة البقرة: فعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة(رواه مسلم) و"إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة"(رواه مسلم).
وكذلك: المعوذات: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وتصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وثالثًا: المحافظة على الأذكار: ومنها ما رواه عثمان بن عفان أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قال صباح كل يوم، ومساء كل ليلة، ثلاثًا ثلاثًا: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضره شيء"(رواه الترمذي، والبخاري في الأدب واللفظ له، وصححه الألباني)، والأذكار كثيرة معلومة.
ورابعًا: الرقية بالمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: فعن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: "نعم"، قال: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك باسم الله أرقيك"(رواه مسلم).
وخامسًا: التصبح بسبع تمرات عجوة: فهذا سعد بن أبي وقاص يروي فيقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اصطبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم، ولا سحر"(متفق عليه).
ومن سبل علاجه أيضًا: استخراج السحر وإبطاله، ولزوم طاعة الله، والحذر من معصيته...
ثم لا تنقطع سبل الوقاية والعلاج من السحر، وما عقدنا هذه المختارة وجمعنا هذه الخطب إلا لبيان خطورة السحر وعاقبة السحرة، ثم لبيان سبل الوقاية والعلاج، فإليك:
التعليقات