اقتباس
ملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض ينبغي أن تطوف بالبيت في نفس الوقت، وتسعى بين الصفا والمروة في نفس الوقت، وتنتقل إلى منى وإلى المزدلفة في نفس الوقت، وتقف بعرفة في نفس اليوم... فأي طاقة وأي إمكانيات وأي مقدرات قد رُصدت وأُعدت وجُهزت وأُنجزت قبل موسم الحج لاستيعاب هذا العدد الضخم المهول...
من الطبيعي أن تشتاق القلوب وتحن وتهفو إلى الحدائق الغناء ذات الزرع والشجر والزهر، أو إلى الشواطئ الفسيحة حيث الأمواج المتلاعبة ونسيم البحر الأخَّاذ... أما أن تشتاق القلوب وتهفو إلى صحراء جرداء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء فذلك العجب العجاب!
لكن يزول العجب حين نعلم أنها دعوة أبينا إبراهيم -عليه السلام- إذ قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].
وقد استجاب الله -عز وجل- دعوة نبيه إبراهيم، فعُمرَ ذلك الوادي، وأنبع الله -تعالى- فيه ماء زمزم بين الرضيع إسماعيل وأمه هاجر، ووسع الله على من سكن هذا الوادي في المال والزرع والثمر، حتى صار يدعى: مكة المشرفة أم القرى.
وأمر اللهُ -عز وجل- نبيَه إبراهيمَ أن يُعْلِم الناس بالحج ووعده بأن يسارعوا في إجابة دعوته فقال له: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج: 27]...
ومن يومها وأفئدة الناس تهوي وتحن إلى بيت الله بمكة، "فجعله الله محلًا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كل عام"(تفسير ابن كثير بتصرف بسيط)، فكنت ترى الآلاف يتوافدون إلى بيت الله -تعالى- لأداء فريضة الحج، واليوم ترى الملايين، وفي المستقبل -إن شاء الله- ربما ترى عشرات الملايين أو مئات الملايين تقصد البيت لأداء فريضة الله، وإن كانت جميع قلوب الموحدين -من استطاع منهم تلبية النداء ومن لم يستطع- تحن كلها إلى بيت الله.
***
وفي عامنا هذا بالتحديد، وفي موسم الحج الذي انتهى منذ أسابيع، كانت الملايين تتوافد على المملكة العربية السعودية لحج بيت الله، وإنها لمنة عظمى من الله أن انقضى الموسم على خير حال وفي أروع صورة وأبهى حلة.
ودعونا نتفق أنه ليس من السهل أن تنظم سير مجموعة مكونة من خمسين فرد خرجوا معك في رحلة من الرحلات ولو إلى مدينة مجاورة لمدينتك، فإن كنت مسئولًا عنهم فأنت مطالب بتأمين سيرهم وحفظ أمنهم وضمان سلامتهم وتوفير وسائل نقلهم ووسائل راحتهم بجانب مأكلهم ومشربهم... إن هذا شاق عسير مع خمسين رجل وامرأة، فما بالك إذن بالمسئول عن ملايين الحجاج الذين جاءوا قاصدين أداء فريضة الله في نفس التوقيت الذي هو موسم الحج!
ملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض ينبغي أن تطوف بالبيت في نفس الوقت تقريبًا، وينبغي أن تسعى بين الصفا والمروة في نفس الوقت تقريبًا، وينبغي أن تنتقل جميعها إلى منى وإلى المزدلفة في نفس الوقت تقريبًا، ويجب أن تقف جميعًا بعرفة في نفس اليوم... فأي طاقة وأي إمكانيات وأي مقدرات قد رُصدت وأُعدت وجُهزت وأُنجزت قبل موسم الحج لاستيعاب هذا العدد الضخم المهول الذي لا أعلم أنه يجتمع عدد مثله ولا مقارب له في أي بقعة على وجه الأرض أبدًا!
وها هي ذي تلك الملايين تسير في هدوء، وتتنقل في يسر، وتؤدي المناسك في سهولة، وتطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة وترمي الجمرات في نظام وتنظيم دقيق يبهر العدو قبل الصديق!
***
إنها أولًا وأخيرًا منة الله وفضل الله وتيسير الله، فلله الفضل في كل أمر، ولولا فضله وتوفيقه وتسديده ما نجا أحد ولا صنع أحد خيرًا، وهو -عز وجل- القائل: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[البقرة: 64]، والقائل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 83]، والقائل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21].
ثم إنها -بعد ذلك- إرادة مبرورة من ملك جليل ومسئولين خِيرة لتنظيم موسم الحج، إرادة حازمة منهم ما بخلوا بمال ولا بجهد ولا بإمكانيات في سبيل تحويلها إلى واقع ملموس محسوس، قد رآه الحجاج وعاينوه وعاشوه، فجعل الله كل ما بذلوه في ميزان حسناتهم يوم القيامة.
وإننا إذ نعترف للقائمين على موسم الحج بما قدموه وما بذلوه ولم نتفضل عليهم، بل هو بعض حقهم، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"(الترمذي)، وفي القرآن يقول الله -عز من قائل-: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: 3] "أي: يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله"(تفسير القرطبي).
وإننا إذ نشكرهم ونحييهم ونذكر فضلهم ونعلن مدحهم لم نبتدع جديدًا ولم نأت بغريب على الإسلام، بل الاعتراف بإحسان المحسن هو منهج الإسلام، ورد الفضل إلى صاحب الفضل من جوهر الدين، وشكر من أدى إليك معروفًا مما أمر به سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"(أبو داود).
وها هو الله -عز وجل- يعرف الفضل لأهله ويكافئ عليه؛ فلما بذلت خديجة -رضي الله عنها- ما بذلت لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنزل -عز وجل- لها جبريل مسَلِّمًا عليها ومبشرًا لها بالجنة، فعن أبي هريرة قال: أتى جبريلُ النبيَ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله: هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها -عز وجل-، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"(متفق عليه).
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر بأنه قد كافئ كل من أدى إليه معروفًا، وبأنه يعرف الفضل لأبي بكر ويكل مكافأته إلى الله -تعالى-، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله به يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا..."(الترمذي).
بل ويقر -صلى الله عليه وسلم- بالفضل لطائر أعجم من أجل معروف يؤديه للبشر، فعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة"(أبو داود).
ولذا فإننا نشكر الله -عز وجل- قبل كل شيء، ثم نقول للقائمين على موسم الحج الفائت: لقد أحسنتم، أحسن الله إليكم وجزاكم الله عن حجاج بيت الله خيرًا، ولست وحدي من يقدم لكم الشكر بل لقد سبقني إلى شكركم كثير من خطبائنا، حتى لقد أنشأوا الخطب الكاملة يشيدون بما صنعتم وبما تعبتم حتى خرج موسم الحج على خير صورة، وهاك بعض خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم