اقتباس
الأم والأب -بما يشكلانه من أصل حياة الأبناء ومنبع الخير فيهم وزارعي القيم والمبادئ في نفوسهم- هما الرافد الأول من روافد الحضارة في أي مجتمع، تلك الحضارة المؤسسة على الأخلاق والتربية والتمسك بالدين بقدر ما تؤسس على التقنية العالية والتقدم الاقتصادي والعلمي؛ فلا حضارة بغير أخلاق، ولا تقدم بغير أسس تربوية عالية تدفع المجتمع إلى الأمام وتعلو به إلى أعلى المقامات ..
الأم والأب -بما يشكلانه من أصل حياة الأبناء ومنبع الخير فيهم وزارعي القيم والمبادئ في نفوسهم- هما الرافد الأول من روافد الحضارة في أي مجتمع، تلك الحضارة المؤسسة على الأخلاق والتربية والتمسك بالدين بقدر ما تؤسس على التقنية العالية والتقدم الاقتصادي والعلمي؛ فلا حضارة بغير أخلاق، ولا تقدم بغير أسس تربوية عالية تدفع المجتمع إلى الأمام وتعلو به إلى أعلى المقامات.
والوالدان -بما يبذلانه من جهد وتضحية في سبيل ذلك، وما يقومان به من غرس مبادئ الدين في قلوب الأبناء- يقومان برسالة عظيمة لا تتطلع أكبر المؤسسات التربوية في العالم إلى القيام بها؛ فهما أصل التربية، وجوهر القيم والأخلاق في المجتمع، فالمجتمع ما هو إلا مجموعة من الأسر الصغيرة، فإذا رسخت مبادئ الحضارة والأخلاق لدى الأبناء فهو أدعى لرسوخها وانطلاقها في جميع بؤر المجتمع الكبيرة والصغيرة.
وعلى الأبناء دور محوري في تنمية هذا الشعور والتحرك لدى الآباء، بطاعتهم، وخفض الجناح لهم، ومراعاتهم ورعايتهم كبارًا كما اعتنوا بهم صغارًا وأطفالاً، فأغلب ما فيه الأبناء من خير راجع بالأساس إلى الآباء، لا سيما الأمهات، سواء على مستوى الصحة الجسمانية أم على مستوى الأخلاق أم حتى على المستوى الاجتماعي، فلا أقل من الاعتراف بجميلهم، والوفاء لحسن صنيعهم، وحملهم على أكف الراحة حتى يؤدوا رسالتهم المنوطة بهم على أكمل وجه.
وإن كانت الصدقات والزكوات من عوامل التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، فإن بر الوالدين وإنزالهما منزلتهما اللائقة بهما لهو من أعظم عوامل التكافل الاجتماعي، هذا إن صحت تسميته تكافلاً، فالتسمية قد تحط من شأن فريضة أوجبها الله -تعالى- بعد إيجابه لتوحيده وإفراده بالعبادة في مواطن كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال عز من قائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، وقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [البقرة: 83]، فهي قمة هرم التكافل الاجتماعي في المجتمع، وكل صنف من الأصناف التكافل إنما يأتي تبعًا لها.
ولعل المتأمل في النصوص الشرعية يجد عجبًا؛ فالنصوص الآمرة للأبناء ببر الآباء وحفظ كرامتهم والاعتناء بهم هي من الكثرة بمكان، في حين نجد في المقابل أن النصوص الحاثة للآباء برعاية الأبناء وحفظ حياتهم والاعتناء بمعيشتهم وكسوتهم وإطعامهم ليست على المستوى نفسه من الكثرة والتشعب، ذلك لأن الله -تعالى- قد فطر قلوب الأبوين على حب الأطفال والتعلق بهم، وبذل الغالي والرخيص في سبيل إمتاعهم وإسعادهم، فقلما تجد أبًا أو أمًّا لا يسعى لوضع القوت في فم أبنائه، أو إلباسهم أحسن الثياب، أو تنظيفهم والاعتناء بأجسادهم إن أصابتهم شوكة أو جرح لا يرى بالعين المجردة، بل إن أحدهم لا يتورع أن يضحي بحياته رخيصة من أجل أبنائه أو إنقاذ حياة أحدهم، فهذا مما فطر الله الناس عليه. ولكن على النقيض باتت تقض المسامع أخبار العاقين لآبائهم، الذين ينهبون حقوقهم، ويؤذونهم بالقول والفعل، وتمتد أيديهم إليهم بالضرب والأذى، بل وأحيانًا بالقتل وإزهاق الأرواح، من أجل دنيا حقيرة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فأي فطر تلك التي انتكست عن أصل الخلقة!! وأي دنيا تلك التي لا تساوي دمعة أمٍّ حزينة أغضبها ولدها فارتجَّت لها أرجاء الأرض والسماء!!
لقد تفشت ظاهرة العنف ضد الآباء والعقوق بشكل تخجل منه كل النفوس المؤمنة المطمئنة، وقد أشار مصدر أمني سعودي قبل أسبوع بأنه قد بات من المألوف أن تسجَّل في مركز الشرطة الواحد ثلاث حالات عقوق أسبوعيًا، محذرًا من أن تتحول هذه الانتهاكات اليومية إلى ما يشبه الظاهرة نظرًا لتفشي تعاطي المخدرات بين الأبناء وسوء التربية. وهذا غاية الظلم والإجحاف، فبدلاً من مجازاة إحسان الوالدين وبذلهما وتضحيتهما بإحسان مثله، تمارس عليهما أبشع الانتهاكات والتجاوزات، وتهضم حقوقهما التي أوجبها الله تعالى لهما بعد حقه عز وجل، وهذه –مع أنها مسؤولية فردية في الأساس- إلا أنها مسؤولية مجتمعية كذلك؛ حيث تقع على عاتق المؤسسات التربوية والحكومية في المجتمع مسؤولية كبرى إزاء هؤلاء الكرام الذين ضحوا وما زالوا يضحون لأجل أبنائهم وتنمية بلادهم، فلا أقل من أن يكون هناك دور حكومي على الأجهزة الرقابية في حمايتهم والتصدي بيد من حديد لكل مجترئ على حقوقهم التي كفلتها لهم الشريعة وأوصى بها الله -رب العالمين-.
إن من أوجب الواجبات التي افترضها علينا هذا الدين إكرام الوالدين، وإشعارهم بكيانهم ومدى نجاحهم في تربية أبنائهم التربية السليمة التي أثمرت في نهاية الأمر أبناءً بارِّين لا يتحملون رؤية الأذى في عيون الآباء والأمهات، بل ويتفننون في البر والطاعة إلى أقصى درجات المحبة والبذل والعطاء، فهذا أحدهم يحمل أمه أو أباه ويطوف به حول الكعبة، والآخر لا يعتلي سقفًا فوق أبيه، وثالث لا يجترئ على النظر في عيني أبيه حياءً واحترامًا، ورابع يحمل أمه إلى الطبيب على ظهره ويرفض أن تركب السيارة، وخامس لم يدعُ طوال عام كامل إلا لأمه بعد أن توفاها الله، وسادس لا ينام الليل قبل أن يسمع من أمه كلمات الرضا والثناء... إلى غير ذلك ممن ضربوا أروع الأمثلة في البر بآبائهم وأمهاتهم؛ لعل رحمة الله -تعالى- تدركهم وهم كذلك.
مختاراتنا لهذا الأسبوع تضم عددًا من الخطب المنتقاة حول بر الوالدين وفضله وأثره في المجتمع المسلم، وصلته بعبادة الله -عز وجل- وتوحيده، ووَضْعُنَا لهذه المختارات يتضمن دعوة لخطباء العالم الإسلامي ودعاته أن يرسخوا هذا المبدأ لدى الناس -لاسيما الشباب- الذين هم عماد الأمة، وعليهم المعول في حفظ كيان المجتمع خاليًا من التشوهات والأمراض الخطيرة التي من شأنها أن تفككه وتزعزع مبادئه وتقوض أركانه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم