اقتباس
وهنا يأتي واجب الدعاة إلى الله عامة، وواجب خطباء المساجد خاصة؛ أن ينبهوا الناس إلى تلك المناسبات الشرعية وإلى خصائصها وفضائلها وكيفية اغتنامها، وأن يستدرجوا البعيد ويقربوه من ربه، وأن يرغِّبوا الغافل ويُطْمِعوه في اغتنام هذي النفحات، وأن يقصدوا الزاهدين في مواسم الخيرات فيثيروا في نفوسهم المنافسة فيتسابقوا على نيل الباقيات الصالحات...
دائما ما تجد أغلب الناس عن طريق الله غافلون: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 92]، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 1]، ويظلون هكذا تطويهم الأيام وتكر عليهم الأعوام... لكن من رحمة الله -تعالى- أن جعل لنا محطات يفيق عندها الغافل ويئوب فيها الشريد ويتذكر فيها الناسي ويتوب فيها العاصي، وهذه المحطات هي التي نسميها بـ"المناسبات الشرعية"؛ وهي مواسم لتنزل النفحات الربانية وتتابع الرحمات الإلاهية وتكاثر العطايا السماوية: فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده"(السلسلة الصحيحة: 1890).
يقول المناوي شارحًا: "(وتعرضوا لنفحات رحمة الله): أي اسلكوا طرقها حتى تصير عادة وطبيعة وسجية، وتعاطوا أسبابها؛ وهو فعل الأوامر وتجنب المناهي وعدم الانهماك في اللذات والاسترسال في الشهوات رجاء أن يهب من رياح رحمته نفحة تسعدكم.
(فإن لله نفحات من) خزائن (رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) المؤمنين، فدوموا على الطلب فعسى أن تصادفوا نفحة منها فتسعدوا سعادة الأبد، قال لقمان: "يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعة لا يرد فيها سائلا""(التيسير بشرح الجامع الصغير، وفيض القدير، وكلاهما للمناوي).
وإذا سألت: وكيف يكون التعرض لهذه النفحات الربانية؟ أجابك المناوي أيضًا قائلًا: "بتطهير القلب وتزكيته من الأكدار والأخلاق الذميمة، والطلب منه -تعالى- في كل وقت قيامًا وقعودًا وعلى الجنب ووقت التصرف في أشغال الدنيا؛ فإن العبد لا يدري في أي وقت يكون فتح خزائن المنن".
فهي مواسم طاعة يختصها الله -تعالى- بفريد الطاعات، أو يضاعف -عز وجل- فيها أجور العبادات، أو يتقبل الله فيها توبة التائبين واستغفار المستغفرين ودعاء الداعين، أو يزود فيها المقبلين بمزيد الإيمان واليقين...
***
وتعالوا بنا الآن نتلمس نماذج قليلة من تلك المناسبات الدينية الكثيرة، ونرى كيف تكون فيها النفحات:
فمنها: يوم الجمعة: الذي قال عنه أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجمعة لساعة، لا يوافقها مسلم، قائم يصلي، يسأل الله خيرا، إلا أعطاه إياه"(متفق عليه)، فتلك نفحة أسبوعية.
ومنها: شهر رمضان: والذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "من صام رمضان، إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه)، ويقول عنه: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه).
وأعظم لياليه هي ليلة القدر: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 2-5]، وهذا موسم سنوي.
ومنها: العشر الأول من شهر ذي الحجة: والتي وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء"(رواه أبو داود)، وهو أيضًا موسم سنوي.
ومن المناسبات الشرعية ما لا تكون نفحاته في مضاعفة الأجور ولا في غفران الذنوب ولا في إجابة الدعوات.. بل تكون له نفحات من نوع آخر؛ تتمثل في العبر والدروس والعظات، فمن ذلك مناسبات الإسراء والمعراج وتحويل القبلة والهجرة النبوية.. فإنا نتعلم منها ما لا نتعلمه من سواها، ويا لها من فرصة لو أحسن استغلالها الدعاة.
ومن المناسبات الشرعية ما يكون شخصيًا كخِطبة ونكاح وعقيقة... فهي مناسبات شخصية وفرصة لمعرفة أحكامها الشرعية من الكتاب والسنة...
***
لكن المؤسف والمحزن أن أناسًا من المسلمين تدخل عليهم هذه المناسبات الدينية بشتى ألوانها وتخرج وما زالوا في غفلاتهم سادرين وفي طريق الآخرة زاهدين وعن الخيرات معرضين! فعن معاصيهم لم يقلعوا، وعلى طاعاتهم لم يحرصوا، وإلى عيوبهم لم ينتبهوا!
وهنا يأتي واجب الدعاة إلى الله عامة، وواجب خطباء المساجد خاصة؛ أن يُنبِّهوا الناس إلى تلك المناسبات الشرعية وإلى خصائصها وفضائلها وكيفية اغتنامها، وأن يستدرجوا البعيد ويقربوه من ربه، وأن يرغِّبوا الغافل ويُطْمِعوه في اغتنام هذي النفحات، وأن يقصدوا الزاهدين في مواسم الخيرات فيثيروا في نفوسهم المنافسة فيتسابقوا على نيل الباقيات الصالحات...
فهي مهمة الدعاة إلى الله -تعالى-، فإن يقوموا بها يبلغوا أعلى الدرجات: فـ"إن الدال على الخير كفاعله"(رواه الترمذي)، وإن "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"(رواه مسلم).
فليذكروهم بالعبرة من تكرر نفس المناسبة أعوامًا إثر أعوام: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان: 62].. ويعلِّموهم أن خير ما استقبلوا به هذه المواسم هو التذلل والاستسلام والخضوع والتبرؤ من الحول والقوة لله رب العالمين: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[فاطر: 15-17].
وكذلك استشعار فداحة ما اقترفنا من ذنوب وخطورة تفريطنا في الواجبات، فها هو سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو يؤاخذني الله، وابن مريم، بما جنت هاتان -يعني الإبهام والتي تليها-، لعذبنا ثم لم يظلمنا شيئًا"( صحيح الترغيب).. ويُشْعِرَهم بمسيس حاجتنا إلى تلك المواسم، وسعادة من أدركها وخذلان من أهملها؛ ففي الحديث القدسي عن الحج: "إن عبدًا صححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم"(حسنه الألباني).
ومن أجل تلك المهمات قد عقدنا هذا الملف العلمي لنستحث الدعاة والخطباء أن يقوموا بها على خير وجه، وقد جاءت محاوره كالتالي:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم