اقتباس
مواسم الطاعات
د. عصر محمد النصر
جعل الله سبحانه في سير الشمس والقمر ومنازلهما, توقيتا لعباده, يعرفون بها أوقات العبادات وترتيب الحاجات :” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ “( البقرة, الآية 189), قال ابن عباس –رضي الله عنهما- :” يعلّمون بها حلّ دينهم, وعدة نسائهم ووقت حجهم”, وقال أبو العالية :” جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم “, وفي تعليق أوقات العبادات بسير الشمس والقمر علامة على يسر الدين, بحيث يدركهما كل أحد, ويستشعر وجودهما, وفي الحديث :” إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ “( البخاري ).
وفي ارتباط المسلم بهذه الآيات نكتة عظيمة ينظر من خلالها إلى عظيم صنع الله سبحانه, يستشعر مضي الزمان وتجدد الأيام, يرى فيها التأريخ وينظر المستقبل, كل ذلك ولسانه يلهج بذكر وشكره والتسبيح بحمده, وقد كان من مظاهر اهتمام أهل الإسلام بهذه المنازل وضع التأريخ الهجري والعمل به, حتى أصبح رمزا لهم يعتزون به ويعرفون به مواسم الطاعات والقربات, وعلى عتبات هذه المواسم تضع النفس حملها, يحدوها الشوق إلى باريها, تتعرض لنسمات الرحمة, قد أثقلتها الهموم وذهبت بها المعاصي والذنوب, فكم من تائب قُبل, وكم من محروم وُصل, فيا سعادة قلب أقبل على الطاعة, فأجاب داعيها وبذل في ذلك العمل.
عند الكلام على مواسم الطاعة لا بد من التأكيد على أن خير حال يقبل بها العبد على ربه حيث يستشعر ذنبه, تحدثه نفسه بعظمة الله سبحانه, وفقره إليه :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”( فاطر, الآية 15), يرى في موسم الطاعة منحة تذهب بما مضى من أيام, فيشد مئزره و يوقظ قلبه, يدرك أن مواسم الطاعة تحتاج إلى عدة لبلوغ المأمول والفوز به, وقد تقرر أن كثرة الاستغفار مما يعين على حسن الاستفادة من هذه المواسم, حيث ينشرح الصدر وتذهب آثار الذنوب, ومن هذا الباب ترويض النفس بالطاعة, فالإلف والعادة واستباق موسم الطاعة بالعبادة مما يعين على حسن العبادة والقدرة عليها.
لكل موسم من مواسم الطاعات عبادة يتميز بها, كالصيام في رمضان, وهي عبادة الوقت, حيث يعد الانشغال بها هو المتعين و الأعظم في استثمار الوقت وتحصيل الأجر, فالطواف في مكة يقدم على غيره من العبادات لخصوصيته بالنسبة للبيت العتيق, والتكبير والذكر في عشر ذي الحجة يقدم على غيره, والأصل في ذلك ترتيب الأولويات الشرعية, وهو من الفقه المحمود صاحبه, ومن مراقي السعود ومدارج الأجر, ومن فقه هذا الباب إبقاء العام على عمومه وسعة دلالته دون حصره بعبادة دون أخرى, ففي قوله صلى الله عليه وسلم :” مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”( صحيح), دليل على استيعاب للأعمال الصالحة كلها, وفي مثل هذه الحالة يحرص المسلم على الجمع بين أنواع العبادات مع مراعاة ما تقدم.
على عتبات مواسم الطاعات حيث تضع النفس حملها, قد يطرأ عليها شيء من الملل أو التعب, وإنما يخرجها من ذلك تذكيرها بشرف الأمر وعظم الطاعة ومنزلة الامتثال, وتذكيرها بغاية خلق الإنسان في هذه الدنيا وسر العبودية, وتذكيرها بعظم أجرها عند الله سبحانه, وأن الأجر على قدر المشقة, فيحتسب المسلم كل ذلك عند الله سبحانه ويسأله القبول, فإنما يسر الله تعالى له هذه المواسم رفعا للدرجات وغفرا للزلات والله الغني عن عباده, وفي الحديث :” يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا”( مسلم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم