اقتباس
ومع أنها دار بلاء، ومع أنه لا يخلو زمن من أزمنتها ولا مكان من أماكنها ولا فرد من أفرادها من البلاء، فإن أشد ما يكون البلاء آخر الزمان، نعم، يشتد البلاء بالعبد المؤمن كلما اقتربت الدنيا من نهايتها وأقبل يوم القيامة...
هي طبيعة الدنيا وجبلتها، وعلى هذا خُلقت؛ مكدرة لا تصفو، ومنغصة لا تسلم، ومنقطعة لا تدوم، ومتقلبة لا تستقر، قد قضى الله على البشر فيها بمختلف البلايا والرزايا والآفات... وقد أعلن القرآن الكريم هذه الحقيقة في غير ما موطن، قائلًا: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)[آل عمرآن: 186]، وقائلًا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155]، وقائلًا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[محمد: 31]، وقائلًا: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)[العنكبوت: 2-3]، بل ما خلق الله الدنيا بزينتها وزخرفها إلا ليبتلينا بها: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف: 7]، وما خلق الموت والحياة إلا لابتلائنا: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 2]...
فوطِّن نفسك على ذلك؛ وطِّن نفسك على تحمل أذاها، وطن نفسك على فراق كل من تحب وكل ما تحب، وطن نفسك على تلف ونصب ووصب، وطِّن نفسك على المكاره والمنغصات والانقطاعات... فتلك سجية الدنيا ولن تتغير أبدًا، وواهم مخدوع من ظن أنها ستصفو له أو تدوم له.
***
وأظنني لن أفاجئك حين أقول: إن هذا البلاء ضرورة، نعم إن وجود الفتن التي هي من أنواع الابتلاءات ضرورة من الضرورات؛ يظهر هذا من تعليل القرآن الكريم للابتلاء، يقول الله -عز وجل-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)[محمد: 31]؛ فالله عالم عليم بكل شيء قبل أن يكون، ولا يحتاج اختبار العبد ليعلم صبره وإيمانه من عدمهما، ولكنه يبتلي العبد ليتبين للعبد نفسه قوة إيمانه من ضعفه، وليقيم الله -عز وجل- على العبد الحجة.
والله -سبحانه وتعالى- قد خلق جنة ونارًا، وكيف يُعلَم من يستحق الجنة ومن يستوجب النار إلا بالبلاء، وكذلك فالجنة درجات فلا بد من أن يبتلى ويمتحن الناس بالفتن، فنعلم -تبعًا لنتيجة هذا الاختبار- من يستحق الفردوس الأعلى ممن يدخل ما دونها من جنات عدن أو غيرها، وقل مثل ذلك عن دركات النار.
والقارئ المتأمل للقرآن يدرك ذلك جليًا، فالله -سبحانه- يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا...)[البقرة: 214]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 142]، فلن يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يبتلى.
فالابتلاء لا بد منه، قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ...)[التوبة: 16]، "ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب" (تفسير القرطبي)، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ...)[العنكبوت: 2]؛ "أي: أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا أي بغير اختبار وابتلاء" (تفسير الخازن).
***
ومع أنها دار بلاء، ومع أنه لا يخلو زمن من أزمنتها ولا مكان من أماكنها ولا فرد من أفرادها من البلاء، فإن أشد ما يكون البلاء آخر الزمان، نعم، يشتد البلاء بالعبد المؤمن كلما اقتربت الدنيا من نهايتها وأقبل يوم القيامة... فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (مسلم).
وقد حدثنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الفتن في آخر الزمان فقال: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل القتل" (متفق عليه)، فإن كانت الفتن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- كالمطر بلا أي مبالغة، فما بالك بكثرتها في آخر الزمان حين "تظهر الفتن"، يروي أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- فيقول: أشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أطم من آطام المدينة، فقال: "هل ترون ما أرى" قالوا: لا، قال: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر" (متفق عليه).
ويروي عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن ظهور الفتن في آخر الزمان قائلًا: "... وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرهم يصيبهم بلاء، وأمور تنكرونها، ثم تجيء فتن يرقق بعضها بعضًا..." (ابن ماجه، وصححه الألباني).
***
ولو قلبت عينك في أحوالنا اليوم فلن تتعنى أن تجد نماذج عديدة من الفتن يزاحم بعضها بعضًا، فنساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، ولو أضفنا إلى وجود هؤلاء العاريات المغالاة في المهور وتعسر الزواج صارت الفتنة أعظم... ومن الفتن أن تجد الجاهلين الساقطين الأراذل العالة يتطاولون في البنيان... ومن الفتن سهولة الوصول للمحرمات عن طريق النت والفضائيات... ومن الفتن رفع العلم بالدين وظهور الجهل به، ومن ثم كثرة التيارات الفكرية الفاسدة من إلحاد وشيوعية وغيرهما... ومن الفتن أن يخون الأمين ويؤتمن الخائن، ويكرم المنافق ويهان الكريم... ومن الفتن ظهور كل منافق عليم اللسان فيزين لك الحرام، ويجعل الحق باطلًا والباطل حقًا ويلبِّس عليك دينك... ومن الفتن غربة الدين وغربة المتمسكين به، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء" (مسلم).
ومن أعظم الفتن صعوبة التمسك بالإسلام والعمل به، وصعوبة تطبيق الشرع على النفس والأهل، وصعوبة الاستقامة على الحق وكثرة المزالق إلى الباطل... عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" (الترمذي، وصححه الألباني).
***
والسؤال الأهم الآن هو: كيف نتعامل مع الفتن، وما طريقة العيش في زمن الفتنة؟ ونجيب: إن الوقاية خير من العلاج، فتجنب الفتن ما استطعت وابذل وسعك في اعتزالها: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" (البخاري)، وفي لفظ أن أعرابيًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب: يعبد ربه، ويدع الناس من شره" (البخاري).
ولما سأل حذيفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: "فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (متفق عليه).
فإن لم تستطع الاعتزال الكامل للفتن والبعد عنها، فتباطأ فيها ما استطعت وتباعد منها قدر وسعك، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به" (متفق عليه)، وفي حديث أبي بكرة قدَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفصيلًا لذلك الملجأ أو المعاذ قائلًا: "إنها ستكون فتن: ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا، فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟..." (مسلم).
ومن وسائل التعامل مع الفتن: لزوم جماعة المؤمنين، وعدم النزوع يمنة ولا يسرة، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "... عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة..." (الترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية..." (مسلم).
ومنها: التمسك بالكتاب والسنة والصراط المستقيم والحذر من الانحراف أو الروغان: فعن النواس بن سمعان، صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب، قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم" (الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
***
ولقد جمعنا هنا عددًا من الخطب المتميزة التي تناولت موضع الفتن وكثرتها في آخر الزمان، وفصلت كيفية التعامل معها، وخوفت من الانخراط فيها والانسياق لها، فإليكم تلك الخطب عل الله -سبحانه وتعالى- ينفع بها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم