اقتباس
ولا تزال الخصومة تتمادى بصاحبها خطوة خطوة ودرجة درجة حتى تخرجه من دينه وإيمانه -والعياذ بالله-؛ فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "...فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، "أي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما تستأصل الموسى الشعر؛ وذلك لما ينشأ عن الشحناء والبغضاء من الفساد الذي لا يتناهى...
إذا حل النزاع والشقاق والتخاصم والتساب والتنابذ ذهبت الملائكة وحضرت الشياطين، فعن أبي هريرة أن رجلًا كان يسب أبا بكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر ساكت، فلما سكت الرجل رد أبو بكر كلمة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- واتبعه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، يسبني وأنت قاعد، فلما رددت، أو انتصرت، أو نحو هذا، قمت؟ قال: "إنه كان ملك يرد عليه، ويقول: كذبت، فلما تكلمت وقع الشيطان، فكرهت أن أجلس"(رواه الطبراني في الأوسط، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة": رواته ثقات).
وليست هذه هي العقوبة الوحيدة لمخاصمة الإخوان بل العقوبة الأخطر هي أن المتخاصمين محرمون من مغفرة الله -عز وجل-؛ فيغفر لكل مسلم موحِّد برئ من الشرك إلا هم فلا يغفر لهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا"(رواه مسلم).
ومن تمادى في الهجر والخصام وأطاع وسوسة الشيطان ولم يرجع إلى الصلح والوئام والإخاء وامتنع عن كلام أخيه فإن عليه من الإثم كسافك الدم الحرام، فعن أبي خراش السلمي أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه"(رواه أبو داود).
ولقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم لقبًا خاصًا لمن يداوم الخصومات فسماه: "الألد الخصم"، وجعله أبغض الناس إلى الله، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبغض الرجال إلى الله: الألد الخصم"(متفق عليه)، وقد عقد عليه البخاري بابًا وعنونه بقوله: "باب الألد الخصم، وهو الدائم في الخصومة"، ويقول محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: "الألد: شديد الخصومة، مأخوذ من: لديدي الوادي وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، الخصم: الحاذق بالخصومة" فنعوذ بالله من حاله.
ولا تزال الخصومة تتمادى بصاحبها خطوة خطوة ودرجة درجة حتى تخرجه من دينه وإيمانه -والعياذ بالله-؛ فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا: بلى، قال: "صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"(رواه الترمذي)، يقول الصنعاني في "التنوير": "أي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما تستأصل الموسى الشعر؛ وذلك لما ينشأ عن الشحناء والبغضاء من الفساد الذي لا يتناهى ويذهب الأموال والأنفس والأعراض، وبالجملة كل فساد في الدين والدنيا فإنه منشأه".
ثم إن الفجور في الخصومة علامة بشعة من علامات النفاق، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"(متفق عليه).
***
فالخصومة داء وبلاء ووبال وشر، وعلاجها التصالح والإخاء، ومن بدأ بالصلح وسعى إليه فهو خير المتخاصمين، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"(متفق عليه).
وإنه لأمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصالح فيما بيننا وأن نصلح بين إخواننا، يقول الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[الأنفال: 1]، وكررها -سبحانه وتعالى- قائلًا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الحجرات: 10]، ويكفي قوله -عز وجل-: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)[النساء: 128].
ومن أجل التصالح، ولأهمية الصلح وحرص الإسلام عليه فقد أباح النبي -صلى الله عليه وسلم- الكذب في الإصلاح بين المتخاصمين، بل لم يجعله من الكذب أصلًا، فعن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا"(متفق عليه).
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم بمتخاصمين إلا سعى بنفسه في الصلح بينهم، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم"(رواه البخاري).
***
ونحن هنا في ملتقى الخطباء نحذِّر من الخصومة ومن التمادي فيها، ونحث ونحض وننادي بالتصالح بين المسلمين وبالإخاء والحب والوئام... ومن أجل ذلك قد عقدنا هذه المختارة وجمعنا فيها من خطب الخطباء النابهين، فلعلها تكون ذكرى للذاكرين وسببًا في تصالح المتخاصمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم