اقتباس
وإننا لنسمع في زماننا هذا عبارات وكلمات هي أنكى وأشد وأخبث من هذه الكلمات، فمنهم من يقول: "لقد ظلم الله المرأة؛ إذ جعل شهادتها نصف شهادة الرجل!"، ومنهم من يقول: "إن نظام المواريث في الإسلام جائر ومتحيز!".. وأقل هذه المقولات كفرٌ صراحٌ وردةٌ واضحة إن كان قائلوها من المسلمين!...
إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولو خلقها لجعلها في أبهى صورة بريئة من كل عيب وشين وآفة، متحلية بكل فضيلة وجمال وكمال... لكن الله -عز وجل- هو الخالق الأوحد الذي لا شريك له في خلقه، والذي اقتضى علمه واقتضت حكمته أن يجعل من البشر أبيض وأحمر وأسود، وأن يجعل منهم ذكيًا وغبيًا وصحيحًا ومريضًا ووسيمًا وقبيحًا وغنيًا وفقيرًا...
كما اقتضى ابتلاؤه للبشر أن يجعل منهم الأعمى والأعور والأعرج والكسيح والأصم والأبكم... والآدمي بكل حالاته هو صنعة الله -تعالى-، ومن عاب الصنعة فإنما قد عاب الصانع -عز وجل-، فمن سخر من خِلقة إنسان أو رزقه فإنما سخر من فعل الله -والعياذ بالله-.
ولقد نهى الجليل -عز وجل- عن السخرية من الناس قائلًا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
***
والساخر من شكل إنسان أو كلامه أو مشيته أو فقره أو ضعفه... قد وزن الأشياء بغير ميزان الإسلام وقاسها بغير مقاييسه؛ فإن ميزان الإسلام يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ)[الحجرات: 13]، ويقول: " ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى"(رواه أحمد).
ولقد حاول النبي -صلى الله عليه وسلم- مرارًا تصحيح مفاهيم البشر وجعْلهم يلتفتون إلى الجوهر ولا يغترون بالمظهر، فقال لهم: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"(رواه مسلم).
بل أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يجعله درسًا عمليًا؛ فقد مرَّ رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"(رواه البخاري)
***
ولعل هذا النوع من السخرية مع قبحه وشؤمه وبشاعته وانتشاره، هو أهون ألوان السخرية والاستهزاء، فإن من السخرية والاستهزاء ما هو كفر بالله -نعوذ بالله-، وهو الاستهزاء بالله أو برسوله -صلى الله عليه وسلم- أو بشيء من دينه وشريعته... يقول قتادة في تفسير قول الله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)[التوبة: 65]، قال: فبينما النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ما قالوا، فقال: "علي بهؤلاء النفر"، فدعاهم، فقال: "قلتم كذا وكذا". فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب"(تفسير ابن كثير).
وعن محمد بن كعب القرظي أنهم إنما استهزأوا ببعض الصحابة، وليس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فقد قال: قال رجل من المنافقين: "ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء"، فرفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب..."(تفسير ابن كثير).
وقد أجاب القرآن على جميع المستهزئين قائلًا: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 66]، يعلق ابن تيمية فيقول: "فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه"(مجموع الفتاوى)، ويقول النووي: لو "قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله -تعالى- استخفافًا باسم الله -تعالى-، كفر"(روضة الطالبين).
وإننا لنسمع في زماننا هذا عبارات وكلمات هي أنكى وأشد وأخبث من هذه الكلمات، فمنهم من يقول: "لقد ظلم الله المرأة؛ إذ جعل شهادتها نصف شهادة الرجل!"، ومنهم من يقول: "إن نظام المواريث في الإسلام جائر ومتحيز!"، ومنهم من يقول: "حجاب المرأة رجعية وتخلف وعودة إلى العصور المظلمة!" يقصد زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من ينسف الإسلام جملة فيقول: "الإسلام دين قد عفى عليه الزمان، وإن كان يصلح للبدو في الصحراء قديمًا فإنه لا يصلح لزماننا هذا عصر العلم والتقدم!"... وأقل هذه المقولات كفرٌ صراحٌ وردةٌ واضحة إن كان قائلوها من المسلمين!
ولخطورة هذا الأمر وكثرة صوره وأشكاله وغفلة كثير من الناس عنه، فقد عقدنا هذا الملف العلمي بما فيه من مواد علمية مكتوبة ومسموعة ومقروءة لنؤصل للأمر ونحذِّر منه، وانتظم في المحاور التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم