السنن الربانية في المستهزئين بدين الله ورسوله

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-10-01 - 1445/03/16
التصنيفات:

 

 

الشيخ محمد صديق

 

إذا كان الإيذاء والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، هو سبب نزول العقاب على الكافرين، وسبب الفتح الأعظم للإسلام في أول أمر هذه الأمة - فإن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به هو سبب نزول العقاب على الكافرين، وسبب الفتح الأعظم للإسلام في آخر أمر هذه الأمة.

 

وهذا من أعظم السنن الربانية التي خلق الله الخلق من أجلِها.

 

السنن الربانية في المستهزئين بدين الله ورسوله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 82 - 85].

 

إن لله سننًا لا تتبدل ولا تتغيَّر، ومن أعظم هذه السنن أن الله تعالى يُملي للأمم حتى تبلغ أعظم درجات العلم، وأعظم درجات القوة، وأعظم درجات الإفساد في الأرض، فيرسل إليهم رسله أو أتباع الرسل بالبيِّنات اليقينية الدالة على تفرُّد الله بصفات العظمة والقدرة والجلال التي تقتضي إفراده بالعبادة والانقياد لشرعه المخبر عنه على ألسنة الرسل، وتأتي هذه البينات لتُعجزهم في أعظم ما برَعوا فيه، فيغتروا بما عندهم من العلم والقوة، فيستهزئوا بدين الله وبرُسل الله، فحينئذ يحيق بهم العذاب، فحينئذ يقولون: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ [غافر: 84].

 

وذلك حين لا ينفع الإيمان، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، فحينما عايَن فرعون قدرة الله الغالبة، وبطلت قدرته وطغيانه الزائف؛ قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 90 - 92].

 

مراحل هذه السنة:

المرحلة الأولى: بلوغ الأمم إلى أعظم درجات العلم والقوة والإفساد في الأرض، ونسيان الخالق وعبادة المخلوقين.

المرحلة الثانية: إرسال البيِّنات على أيدي الرسل أو أتباع الرسل.

المرحلة الثالثة: الاغترار بالعلم والقوة، والاستهزاء بدين الله ورسله.

المرحلة الرابعة: نزول العقاب بالمستهزئين والفتح للأنبياء والمؤمنين.

قال تعالى: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الزخرف: 7، 8].

 

تحقيق هذه السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

المرحلة الأولى: بلوغ الأمم إلى أعظم درجات العلم والقوة والإفساد في الأرض ونسيان الخالق.

إنه من ينظر إلى وجه الأرض قبل البعثة، يجد أن الله قد نُسِي في أرضه، وعُبِدت الطواغيت والأصنام من دون الله.

فعن عِياض بن حِمار المُجاشعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأَبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويَقظان)[1].

 

ونجد أن الناس مفتونون بقوتين عظميين، وهما الفرس والروم، وأن الفساد الاجتماعي قد وصل إلى ذِروته من الأنكحة الفاسدة، ووأد البنات، والتعدي على الأعراض والدماء والأموال.

 

المرحلة الثانية: إرسال البينات على أيدي الرسل أو أتباع الرسل:

عندئذ بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالبيِّنات الدالة على وحدانية الله، واستحقاقه وحده للعبادة دون سواه، والأمر بالعدل والإحسان والصلة، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والبغي والفساد في الأرض.

 

المرحلة الثالثة: الاغترار بالعلم والقوة والاستهزاء بدين الله ورسله:

في العام العاشر للبعثة - كما ورد في كتب السيرة - مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يناصره من الرجال، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتناصره، وسُمي ذلك العامُ بعام الحزن، ونالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تَطمَع أن تَناله منه من قبلُ.

 

عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوسٌ، فقال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسَلى جَزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم - عقبة بن معيط - فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أُغني شيئًا لو كان لي منعةٌ، قال: فجعلوا يضحكون ويُحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمَّى اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعدَّ السابع، فلم يحفظ، قال: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب: قليب بدر)[2].

 

فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يعرض عليهم دعوة الإسلام ومناصرته، بعدما يئس من نصرة قريش ومقابلتهم لدعوته بالصد والأذى، فيرد عليه أهل الطائف بأشد الإيذاء والاستهزاء؛ فعن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْم كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاني مَلَكُ الجبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)[3].

 

وفي سبيل الهدى والرشاد، قال موسى بن عقبة وابن إسحاق وغيرهما: فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد يا ليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمح، وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن قدامة بن جمح، وهي أم صفوان بن أمية، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمهم بما جاء به من نُصرته على الإسلام، والقيام على مَن خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف.

وقد قال لهم: إذا فعلتم فاكتموا علي، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه.

 

فأقام بالطائف عشرة أيام - وقيل: شهرًا - لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلَّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم منه، فقالوا: يا محمد، اخرج من بلدنا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس؛ قال ابن عقبة: وقفوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفين، جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدْمَوْا رجليه.

 

وروى الطبراني برجال ثقات عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم، أتى ظل شجرة، فصلى ركعتين، ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ضَعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملَّكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[4].

[1] مسلم (5109).

[2] رواه البخاري (233).

[3] رواه البخاري (2992).

[4] سبل الهدى والرشاد (ج2).

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات