تحذير العباد من داء السخرية والاستهزاء

أحمد عماري

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ مفهوم السخرية والاستهزاء 2/ خطورة السخرية والاستهزاء 3/ صور من السخرية والاستهزاء 4/ صور للسخرية والاستهزاء بالناس 5/ عاقبة المستهزئين.

اقتباس

من الناس من هو منكوس الفطرة، ميت القلب، أعمى البصيرة، يعشق الباطل ويكره الحق، ويحب الظلام ويفر من النور، يريد للدنيا أن يعمها الظلام الدامس، يريد للمجتمعات أن تعيش في مستنقع الرذيلة العفن، يكرهون الدين وأهله؛ ويستخدمون سلاح السخرية والاستهزاء لمُعارَضةِ هذا الدين وصدّ الناس عنه، يفعلون ذلك لأن الشهوات قد تحكمت في نفوسهم، أو لأن أعمالهم ومشاريعهم قائمة على المحرمات والمنكرات، فهم يخافون من الدين أن يجفف مستنقعهم القذر الذي يعيشون في وَحْلِه ويتكاثرون في دَنسه...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

 

ما يزال حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال. وحديثنا اليوم عن مرض عضال، وشرّ ووبال، عن داء يفرِّقُ القلوب، ويوغر الصدور، ويُذكي نار الفتن، ويُجرِّئ السفلة من الناس على ظلم العباد والتطاول على مسلَّمات الشرع وقواطعه. إنه داء السخرية والاستهزاء. مرض خطير، وشر مستطير، لا يخلو منه زمان ولا مكان، ولم يسلم من شره أفراد ولا أسر ولا مجتمعات ولا مقدسات.

 

أيها المسلمون: السخرية هي: الاحتقار والاستهانة بالناس، وذكر العيوب والنقائص على وجه يُضْحَك منه بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الحركة.

 

والاستهزاء هو: حمل الأقوال والأفعال على الهَزل واللعب، لا على الجد والحقيقة.

السخرية والاستهزاء: تهكم وازدراء وانتقاص للغير.

السخرية والاستهزاء: كذب وزور، وقلب للحقائق وتشويه لها.

 

عباد الله: ما أقبح هذا الخلق الدنيء، وما أبشع هذه الخصلة الذميمة، التي لا يصاب بها إلا ذوُو العقول المريضة، والقلوب الميتة، والفطر المنكوسة.

 

ويكفي هذ الخلق (السخرية والاستهزاء) قبحًا وسوءًا أنه من صفات المنافقين؛ فالمنافقون هم أكثر الناس سخرية بالرسل وأتباعهم، وبما جاءت به الرسل عليهم السلام من الحق والهدى، قال تعالى في وصفهم: (وَإذا لقوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة:14] وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه: (يَحْذرُ المُنَافِقونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تحْذرُونَ) [التوبة:64].

 

وإذا كانت السخرية سمة المنافقين، وحيلة العاجزين، وبضاعة المفلسين؛ فلا يليق بمسلم أن يتخلق بأخلاقهم، فيسخر من إخوانه، أو يحتقرهم، أو يحط من شأنهم ومكانتهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"...

 

السخرية والاستهزاء مرض يَنِمّ عن كِبْر وغُرُور في قلب صاحبه، فلا يرى لإخوانه عليه حق التوقير والاحترام، بل يأنف من أُخُوتهم ويأبى مجالستهم تكبرا وغرورا.

 

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". قال رجل: إنّ الرجل يُحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؟. قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم؛ وذلك حين ينظر المرء إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص.

 

السخرية والاستهزاء باب من الشر عظيم، يفتح أبواب الهمز واللمز والغيبة والنميمة، ويملأ القلوب ضغائن وأحقادا وعداوات، ويسبب في الخصومات والنزاعات.

 

فحري بكل مسلم أن يحفظ لسانه، ويتوقى في أقواله وأفعاله، ويحذر سبيل الهمازين اللمازين الذين يسخرون من عباد الله المؤمنين، ويستهزئون بدين رب العالمين؛ لينجو مع الناجين، ولا يهلك مع الهالكين.

 

أيها المسلمون: للسخرية والاستهزاء صور عديدة وأشكال كثيرة، أعظمها قبحا وجرما:

 الاستهزاء بالله تعالى: أن يستهزئ المرء بخالقه ومولاه؛ بالكفر به، والتمرد على دينه، والتجرّؤ على كتابه...

 

فمما لا يجهله أحد من المؤمنين: أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، له كل جلال وكمال وجمال، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].

 

غير أن كثيرا من الناس لم يَقدُروا الله حق قدره، فكان من أقبح كفرهم وعنادهم ونفاقهم الاستهزاء بالله والسخرية منه، سبحانه وتعالى عما يصفون، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

 

ومن صور الاستهزاء بالله: الكفر والإلحاد والجحود؛ فمن الناس من لا يؤمن بالله، ويعتقد أنما يقع في الكون إنما هو من تصرف الطبيعة، فجعلوا من الطبيعة إلها يُعبَد من دون الله تعالى، حتى قال بعضهم – وبئس ما قال -: لا إله، والكون مادة، والطبيعة تخبط خبط عشواء ولا حدّ لقدرتها على الخلق.

 

ومن الناس من أشرك بالله غيره، فاتخذ لنفسه أندادا يحبهم ويعظمهم ويعبدهم من دون الله، يفرح بالشرك ويشمئز من التوحيد، قال تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر: 45].

 

ومن الاستهزاء بالله تعالى: وَصْفُه بما لا يليق به سبحانه. كمن يصفه بالعجز والتقصير، والبخل، والظلم، وغير ذلك مما لا يليق بجلال الله وعظمته وفضله وعطائه. قال تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران: 181، 182]. وقال عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [المائدة: 64].

 

ومن الاستهزاء بالله تعالى: الاستهزاءُ بكلامه عز وجل؛ بالقرآن الكريم. فمن الناس من يشكك الناس في القرآن الكريم، ويطعن في أحكام القرآن ويصفها بالنقص والعجز عن مسايرة العصر المتطور حسب زعمهم، يجادلون بالباطل لصد الناس عن الحق، قال تعالى: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) [الكهف: 56]. وقال تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [الصافات: 12 - 17].

 

ومن الناس من يخوض في القرآن الكريم بغير علم، فيؤول ما شاء، ويردّ ما شاء، ويزعم أن له تفسيرا جديدا لمعاني القرآن لم يسبقه إليه أحد... وهذا حال من حذر الله تعالى من مجالستهم فقال سبحانه: (وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء: 140].

 

ومن الناس من يُعرض عن كتاب الله ويرفض أحكامه وأخلاقه، ويسعى بكل ما يملكه من جهد ووسيلة لصد الناس عنه وإبعادهم عنه. قال عز وجل: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الجاثية: 7 - 10].

 

ومن الاستهزاءِ بالله تعالى: الاستهزاء بدينه وشرعه. فالإسلام دين رب العالمين، مَن استهزأ به فقد استهزأ بالله تعالى؛ لأنه هو الذي شرعه وارتضاه دينا لعباده.

 

فمن الناس من هو منكوس الفطرة، ميت القلب، أعمى البصيرة، يعشق الباطل ويكره الحق، ويحب الظلام ويفر من النور، يريد للدنيا أن يعمها الظلام الدامس، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). يريد للمجتمعات أن تعيش في مستنقع الرذيلة العفن، ويريد من الناس أن يتخلوا عن كل خلق وفضيلة، يَغيظه الطهرُ والعفافُ والنقاءُ والصفاءُ والأخلاق والقيم، ولا يطيب له العيش إلا في المستنقعات القذرة، وهذا هو حال المنافقين في كل زمان، ممن قال الله فيهم: (الْمُنَافِقونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقبضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفاسِقونَ) [التوبة: 67].

 

يكرهون الدين وأهله؛ ويستخدمون سلاح السخرية والاستهزاء لمُعارَضةِ هذا الدين وصدّ الناس عنه، يفعلون ذلك لأن الشهوات قد تحكمت في نفوسهم، أو لأن أعمالهم ومشاريعهم قائمة على المحرمات والمنكرات، فهم يخافون من الدين أن يجفف مستنقعهم القذر الذي يعيشون في وَحْلِه ويتكاثرون في دَنسه.

 

يستهزئون بالصلاة، ويصدون الناس عنها، ويضحكون ممن يقيمها ويحافظ عليها. كما قال ربنا سبحانه: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلونَ) [المائدة: 58].

ويسخرون من الصيام، ويَدْعُون إلى رفع التجريم عن الإفطار العلني في رمضان.

 

ويسخرون من حجاب المرأة وعفتها وحيائها، ويعتبرون ذلك رمزا للتخلف والرجعية، وما أرادوا من ذلك إلا لتخرج المرأة عن عفافها وشرفها، فتكون لقمة سهلة لذئاب البشر المسعورة، وحتى يتحول هذا المجتمع المحافظ على دينه وقيمه وأخلاقه، إلى مجتمع وحشي يرزح تحت وطأة الإباحية والسّعار الجنسي، وتدمير الأسرة ومحاربة الفضيلة والعفة.

 

ويسخرون من أحكام الدين وأخلاقه، بدعوى أنها تقيد الحريات الفردية، فهم يريدون أن يعيشوا في هذه الدنيا كما يشاؤون ويشتهون، وكما تملي عليهم أهواؤهم وتميل إليه شهواتهم.

 

أيها المسلمون: ومن ذلك: الاستهزاء بالأنبياء والرسل:

فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام - وهم أشرف خلق الله - لم يَسْلموا من سخرية أقوامهم واستهزائهم بهم. هكذا كان دأب الكافرين في كل الأمم؛ يسخرون من رسلهم وأنبيائهم، ويتهمونهم بكل عيب ونقيصة، كما أخبر الله تعالى بذلك عنهم: (يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). وقال عز وجل: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 52، 53]. كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون، وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد، تجمع بين المنحرفين من الغابرين واللاحقين.

 

فهذا نبي الله نوح عليه السلام يقابله قومه بالسخرية والاستهزاء، يضحكون منه ويسخرون منه حين رأوه يصنع السفينة في الصحراء؛ قال الله تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود: 38، 39].

 

وهذا نبي الله هود عليه السلام أرسله الله إلى عاد فسخروا منه: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جئتنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقولُ إِلَّا اعْترَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) [هود: 53].

 

وهذا نبيّ الله صالح عليه السلام أرسله الله إلى ثمود فأجابوه بهذا الجواب: (قَالَ الْمَلَأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف: 75 - 77].

 

وهذا نبي الله لوط عليه السلام أرسله الله إلى قومه فنهاهم عن فاحشة اللواط، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56].

 

وهذا شعيب عليه السلام يقابله قومه بالسخرية والاستهزاء فيصبر ويحتسب، قال الله عنهم: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87].

 

أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد لاقى من الاستهزاء والسخرية ما تتفطر له القلوب، واجه صلى الله عليه وسلم سخرية قبائل العرب المشركين في الفترة المكية، وواجه سخرية واستهزاء المنافقين واليهود في الفترة المدنية.

 

قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 41، 42].

وقال عز وجل: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

 

وفي شأن المنافقين الذين يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويزعمون أن ذلك مجرد لعب ومزاح، نزل قول ربنا سبحانه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65، 66].

نسأل الله السلامة والعافية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

أيها الإخوة: ومن صور الاستهزاء: الاستهزاء بالعباد: فالسخرية والاستهزاء داء ابتلي به كثير من الناس؛ يضحكون على الناس، ويسخرون منهم، ويستهزئون بهم، وينتقصونهم ويحتقرونهم...

وثمة أشخاص متخصصون في صنع النوادر والنكت على الناس، تكبرا وغرورا، أو تقليدا، أو انتقاما...

 

فمن أرباب العمل من يسخر من خدمه وعماله، ومن المُدرّسين من يسخر من طلابه وتلامذته، ومن المدراء من يسخر من موظفيه، والقوي يسخر من الضعيف، والغني يسخر من الفقير، وصاحب الجاه يسخر ممن لا جاه له. والمرأة الحسناء أو الغنية أو الموظفة تسخر ممن هي دونها في ذلك... ومن الناس من يسخر من غيره للونه أو لسانه أو حرفته أو عادته... ولا يصدر ذلك إلا عمن ضعف إيمانه وانتكِسَتْ فِطرته وغاب عقله وقل حياؤه..

 

أما المؤمن الحيي الفطن فلا يسخر من أحد ولا يحتقر أحدا؛ لأنه يعلم أن الناس كلهم من آدم وآدم من تراب، ويعلم أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وكلما كان العبد تقيا كلما ازداد تواضعا ورفقا وحياء ورحمة وسماحة..

 

فإياك أن تسخر من أحد، وإياك أن تحتقر أحدا، واعلم أن العبرة ليست بالأشكال والمظاهر والألقاب؛ فقد يكون الذي تسخر منه وتحتقره أحب إلى الله منك، وأعظم قدرا عند الله منك، وأقرب من الله منزلة منك... فقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].

 

وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا" فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيك في هذا" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".

 

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رُبّ أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرّه".

 

فقد يكون ذلك الفقير الوضيع الذي يراه الناس حقيراً لا قيمة له، كلّ يسخر به، كل ينكت عليه، ربما يكون عند الله عز وجل أفضل من أهل البلد كلهم؛ لكنها السخرية والاستهزاء بعباد الله التي أعمت القلوب والعيون عن رؤية هذه الحقيقة.

 

عباد الله: وللسخرية من الناس أشكال عديدة، وأنواع كثيرة، كلها تدل على نقص في الإيمان، وضعف في الدين، وسخافة عقل وسوء خلق. ومن ذلكم:

 

فالاستهزاء بأهل الفضل والخير من المؤمنين والمؤمنات: ولا يستهزئ بأهل الفضل ويسخر منهم إلا مريض القلب عديم الإيمان. قال تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا) [البقرة:212]. وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطَّففين:29-30].

وقد بين الله تعالى أن السخرية من المؤمنين صفة من صفات المنافقين، فقال سبحانه: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

 

ويبين ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي مسعود، قال: "لما أمِرْنا بالصدقة كنا نحامل، - أي نتكلف الحمل على ظهورنا بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به - فجاء أبو عَقِيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخرُ إلا رئاء، فنزلت: (الذين يَلمِزُون المُطوّعِين من المؤمنين في الصّدَقات، والذين لا يَجدُون إلا جُهْدَهُمْ) الآية". [التوبة: 79].

 

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (وهذه - أيضاً - من صفات المنافقين، ألا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُرَاء !! وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا).

 

فالمؤمن لا يليق به أن يسخر من إخوانه، ولا أن يحتقرهم ويعظم نفسه، بل يتواضع لهم، ويحبهم ويعينهم على الخير... ورحم الله بكر بن عبد الله حين قال: إذا رأيت من هو أكبرُ مني سناً قلت سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو أفضل مني.. وإذا رأيت من هو أصغرُ مني سناً قلت سبقته بالذنوب وارتكاب المعاصي فهو أفضل مني.. وإذا رأيت إخواني يكرمونني قلت: نعمة تفضلوا بها عليّ.. وإذا رأيتهم يقصّرون في حقي قلت: مِن ذنب أصبته.

 

ومنها: السخرية من الناس لعيب في خِلقتِهم وصورتهم: فمن الناس من يسخر من عباد الله لضعف في قوتهم، أو تشوه في صورتهم، أو إعاقة في حركاتهم... ولا يليق هذا بمؤمن موقن بأن الله تعالى هو الخالق الواهب، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: حسبك من صفيّة كذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة. فقال: "لقد قلتِ كلمة لو مُزجَتْ بماء البحر لمزجَته". أي لو خالطت هذه الكلمة ماء البحر لتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.

 

فإذا رأيتَ مبتلى في بدنه فاحمدِ الله الذي عافاك مما ابتلاه به، وسل الله تعالى له الشفاء والعافية، وقدم له من المعونة ما تستطيع، وأشْعِرْه أنك تحبه وتتضامن معه...

 

فالله هو الخالق؛ ومن تمام عدله سبحانه أنه لا يحاسب الناس على أشكالهم وألوانهم وصورهم؛ إذ هو خالقهم سبحانه، ولكن يحاسبهم على أعمالهم وأقوالهم.

 

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

 

ومن ذلك:  الاستهزاء بالمقصّرين المذنبين من المسلمين:

وكلنا مذنبون وكلنا مقصرون، ومن ادعى الكمال لنفسه فهو متكبر مغرور؛ إذ لا كمال في كل جميل وجليل إلا لله رب العالمين، ولا كمال في الطاعة والعبادة إلا لأنبياء الله ورسله الذين عصمهم الله واصطفاهم واجتباهم. وإذا كنا نعترف أننا مقصرون مذنبون فعلينا أن نتعاون ونتآزر ونتناصح، لا أن يسخر بعضنا من بعض، أو يحتقر بعضنا بعضا ويعظم نفسه ويمدحها. والله تعالى يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى). أي لا تمدحوها معجبين بها.

 

فإذا رأيت مِن أخيك شيئاً من مخالفة الشرع فإياك أن تسخر منه، وإياك أن تحتقره، وإياك أن تشمت به فتعِينَ الشيطان عليه.

 

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: "اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان".

 

إذا رأيتَ إنسانا على معصية فإياك أن تقول: هذا لا يُغفرُ له، وهذا لا تقبل توبته، فأنت بذلك تتألى على الله وتتطاول على حكمه، والله أحكم وأعلم وأعدل، فقد يمنّ عليه بتوبة نصوح قبل مماته فيكون من الناجين، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما دعا على نفر من كفار قريش: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران:128].

 

وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: "أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك". أو كما قال.

 

لا تسخر من أخيك لذنب ارتكبه، بل انصحْه ووجِّهه، فالدين النصيحة. أما أن تضحك منه وتجعلَه حديثَ مجالسك تتحدَّث عن سيئاته وعن أخطائه فليس ذلك من شيم المسلم ولا من أخلاقه؛ ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا". ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". أي يكفي المسلمَ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهذا تعظيم لاحتقار المسلم، وأنه شر عظيم، لو لم يأت الإنسان من الشر إلا هذا لكان كافيا في الإثم والذم والعقاب.

 

أيها المسلمون: للسخرية والاستهزاء عواقب وخيمة، ونتائج سيئة في الدنيا والآخرة. فما أقبحها من خصلة، وما أخسها من صفة!

 

فإياك أن تكون من المستهزئين الساخرين؛ فإن عاقبتهم هلاك في الدنيا، وخسران يوم القيامة.

قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). وقال سبحانه: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [الرعد: 32].

 

خزي في الدنيا، وعذاب في الآخرة. هلاك ودمار في العاجلة، وعذاب مقيم في الآجلة. فذلك جزاء من عادى أولياء الله، واستهزأ بأحبابه وأصفيائه. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب...". أي أعلمته بالهلاك والنكال.

 

إياك أن تكون من المستهزئين الساخرين؛ فإن عاقبتهم حسرة وندامة، يوم لا تنفع الحسرة ولا الندامة.

 

قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 55، 56].

إياك أن تكون من المستهزئين الساخرين؛ فإن عاقبتهم عذاب مقيم في جهنم وبيس المصير.

 

قال تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:111].

هؤلاء الذين كنتم تحتقرونهم وتشمئزون منهم وتسخرون منهم هم الفائزون، أما أنتم أيها المستهزئون فأنتم الخاسرون الهالكون.

 

يعجبون يوم القيامة حين لا يرون من كانوا يسخرون منهم في الدنيا معهم في النار، وقد كانوا يظنون أنهم على ضلال؛ (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذنَاهُمْ سخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ) [ص:62-63]. أي أولئك الذين كنا نظنهم ونعدّهم أشراراً، ونعدّهم فجاراً، ونعدّهم ضُلالاً، أين هم الآن؟ لماذا ليسوا معنا في النار؟ هل كنا نسخر منهم ونحتقر أمرهم بينما هم على الحق وعلى الطريق المستقيم؟ أم أنهم معنا الآن لكن أبصارنا قد زاغت عنهم فلم نتمكن من رؤيتهم؟..

 

بل إن الله تعالى يعاقب المستهزئين الذين يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؛ يعاقبهم بأن يُذِلهم ويُخزيهم، ويُمَكّنَ لعباده المؤمنين من الضحك عليهم يوم القيامة. فالجزاء من جنس العمل.

 

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين: 29، 36].

 

فرحم الله عبدا حفظ لسانه عن الهمز واللمز والاستهزاء بالناس والسخرية منهم، واشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومن سلم منه الخلق رضي عنه الرب سبحانه.

 

فاللهم طهر قلوبنا وطهر مجتمعاتنا من مرض السخرية والاستهزاء، واملأ قلوبنا بمحبتك وتعظيمك وإجلالك، وارزقنا المحبة والمودة لعبادك، يا رب العالمين.

 

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

العباد من داء السخرية والاستهزاء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات