اقتباس
إن شهر رمضان شهر مبارك ليس كغيره من الشهور؛ فهو أعظم الشهور، وذلك لما حبا الله المتسابقين فيه بالحسنات والأجور، وما أنعم الله به على عباده من مغفرة الذنوب والشرور، ويكفي هذا الشهر منزلة ومكانة؛ أنه مدرسة تسمو...
إن شهر رمضان شهر مبارك ليس كغيره من الشهور؛ فهو أعظم الشهور، وذلك لما حبا الله المتسابقين فيه بالحسنات والأجور، وما أنعم الله به على عباده من مغفرة الذنوب والشرور، ويكفي هذا الشهر منزلة ومكانة؛ أنه مدرسة تسمو فيها الأرواح، وتتربى فيها النفوس على المحافظة على سبل مرضاة الكريم الفتاح، وتألف المداومة على العمل في ميادين النجاح، والاستقامة على هدى الإمام الوضاح ورائد الهداية والإصلاح، -صلوات ربي وسلامه عليه- ما أضاء نجم ولاح وأقبل فجر وأشرق صباح.
أيها المسلمون: شهرنا شهر تأهيل وتدريب وتغيير وترويض؛ فتعالوا بنا نستعرض بعض ما جاء في رمضان من الدروس التربوية؛ الإيمانية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية وغيرها؛ ومن أبرز ما ذلك؛ ما يلي: أولا: أن رمضان مدرسة تعلم المؤمن التسليم والانقياد والاتباع؛ فكما أن الله -تعالى- منع عن عباده الطعام والشراب وسائر المفطرات في رمضان، كذلك أوجب عليهم الصيام عن الحرام طيلة عمر الإنسان؛ فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عن الحلال والحرام، ويصوم طيلة عمره وأيام حياته عنه -كذلك-.
الصوم -يا عباد الله- في اللغة الإمساك عن الشيء؛ فامتناع اللسان والعين والأذن واليد والرجل والفرج عما نهيت عنه من الحرام، هو صيام من حيث اللغة، وهو واجب على المسلم زمن حياته وطول عمره، ويعلم أنه محاسب على كل ما اقترفه بسمعه وبصره وفؤاده؛ قال سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36]، ويقول الحق -تبارك وتعالى- في آية أخرى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65].
كما أن في السنة المطهرة ما يؤكد ذلك، ومن ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من لم يدَع قولَ الزُّورِ، والعملَ بِهِ، فلَيسَ للَّهِ حاجةٌ أن يدعَ طعامَهُ وشرابَهُ"، وعنه -أيضا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السَّهرُ" (صححه الألباني). وصح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلَّا الصِّيامُ؛ فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، والصِّيام جُنَّةٌ؛ فإذا كانَ يومُ صوْمِ أحدِكُم فلا يَرفُثْ يومئذٍ ولا يَسخَبْ؛ فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتلَهُ، فليقلْ: إنِّي امرؤٌ صائمٌ" (البخاري ومسلم).
رمضان مدرسة في تحقيق تقوى الله -تعالى- وتأصيلها في القلوب، وذلك من أبرز مقاصد الصيام وحكمه، فلو لم يكف من الصيام حققه الصائم من صومه إلا هذه لكانت كافية، كما قال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]، وفي الحديث "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"؛ وهذا الشعور والإحساس هو الذي نسميه بالتقوى. والصوم مدرسة للمؤمن في جهاد النفس ومدافعة الشيطان؛ حيث يلزم الصائم نفسه على المشروع ويمنعها عن المحظور؛ وهذا هو الجهاد الأكمل الذي فرضه -تعالى- على عباده، كما في الحديث الذي رواه ابن حبان، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المجاهدُ مَن جاهَد نفسَه للهِ -عزَّ وجلَّ-". وفي رمضان يتدرب العبد على قهر سلطان العادة؛ فقد يتعود الإنسان على عادة سيئة، كشرب الدخان -مثلا-؛ حيث يمارسها بصورة مستمرة متى ما دعته نفسه إلى ذلك، فيأتي رمضان فيقهر سلطان هذه العادة ويحول بين العبد وبينها بالتدرج حتى يعينه على التخلص منها؛ فكون الصائم يتركها ساعات النهار كله لمدة ثلاثين يوما لا شك مع التوفيق الإلهي والعزم الداخلي أنه سيتخلص منها، ومثلها النوم والكسل وشهوة البطن بالإمساك.
كما أن رمضان مدرسة يتعود المسلم فيها على ملازمة العبادات؛ سواء كانت هذه العبادات قلبيه كالمراقبة والخشية والتوبة والإنابة والمحبة، أو كانت عملية كالصلاة والزكاة فرضها ونفلها وغيرها، أو كانت قولية كقراءة القرآن والذكر والدعاء وغيره. والحرص على ما في ذلك كله من الفضل والأجر والفوائد الدنيوية والأخروية. ورمضان مدرسة لتقوية الإرادة والصبر والتحمل: فالصائم يشعر بالجوع رغم وجود الطعام ويجد العطش رغم وفرة الماء ويجد الحاجة لأهله رغم وجودهم؛ إلا أنه يمتنع عن هذا كله استجابة لربه ومولاه القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
رمضان مدرسة لتدريب النفس على النظام والتقيد والانضباط مع الله في القيام بدقة بما أو جب عليه والانضباط مع عباد الله بالقيام بحقوقهم وأعمالهم حسب ما يريدون؛ وهذا يظهر جليا فهو يترك المفطرات لمجرد دخول الوقت أو سماعه للأذان وهكذا يفطر لمجرد دخول الوقت أو سماعه للأذان. رمضان مدرسة لضبط الأخلاق السلوك؛ فالصائم ملزم أن يهذب سلوكه فليزم نفسه على أحسنها ويخلص نفسه من مساوئها وألا يرد على المسيء بالمثل؛ وهذا مأخوذ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصبَحَ أحدُكُم يومًا صائمًا، فلا يرفُثْ ولا يجهَلْ؛ فإنِ امرؤٌ شاتمَهُ أو قاتلَهُ، فليقُلْ: إنِّي صائمٌ إنِّي صائمٌ"(رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة).
رمضان مدرسة للعبد على بذل المعروف والإحساس للخلق؛ فمن جود الله في رمضان الفريضة بأجر سبعين فريضة والنافلة بأجر فريضة، وهكذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما-، "أنه كان أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، حين يلقاه جبريلُ، وكان جبريلُ يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيدارِسُه القرآنَ، فلَرَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ" (رواه البخاري). والصائم يتعلم من هذا الجود فيطبقه في نفسه مع الخلق عموما والأقربين خصوصا.
وهو مدرسة للتراحم وذلك خلال ما يجده الصائم من الجوع والعطش والامتناع عن كثير من الطيبات في نهار رمضان رغم وفرتها لكنهم تركوا ذلك تعبدا؛ فيتذكروا المحرومين طوال العام الذين حرموا كل هذه الطيبات ولم يتمكنوا من توفيرها؛ فيقود هذا الشعور الجميل إلى بذل الصدقات والزكوات ويشكر ربه على ما أنعم عليه من الخيرات. خطباؤنا الكرام: تجدون في هذه المقدمة إطلالة يسيرة حول بعض ما يستفيده العبد في رمضان وما يتعلمه من الصيام؛ حتى يصبح ما أخذه من المدرسة الرمضانية سجية له تلازمه في كل حياته حتى يلقى ربه، كما أرفقنا معها مجموعة من الخطب. سائلين الله -تعالى- لنا ولكم عفوه وعافيته ورضاه وجنته؛ إنه جواد كريم وبفقرنا إليه عليم.
التعليقات