رمضان.. مدرسة الارتقاء الروحي والأخلاقي

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2021-04-09 - 1442/08/27 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/لتشريعات الله حكم بالغة من المهم الوقوف عليها 2/من حكم بعض التشريعات تربية المرء لمقاصد تشريعية أخرى 3/من مقاصد الصيام الروحية والسلوكية 4/غاية مدرسة الصيام التربوية هو صلاح الروح واستقامة الجوارح

اقتباس

إِنَّ الصِّيَامَ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَوَارِحِ؛ فَهُوَ يُعْطِي الْعَبْدَ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ فِي ضَبْطِ غَضَبِهِ، وَكَبْحِ حِدَّتِهِ، وَالصَّائِمُ إِذَا لَزِمَ الصَّبْرَ خِلَالَ شَهْرِهِ فَسَيَخْرُجُ مِنْ مَدْرَسَةِ رَمَضَانَ بِنَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَخُلُقٍ لَيِّنٍ، وَإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، يُمَارِسُهَا سُلُوكًا وَيَعِيشُهَا وَاقِعًا...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، شَرَعَ فَأَحْكَمَ، وَكَلَّفَ فَيَسَّرَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِشَهْرِ الرَّحَمَاتِ، وَمَنَحَنَا مَوْسِمَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا إِمَامُ الْعَابِدِينَ، وَسَيِّدُ الْمُتَنَسِّكِينَ، وَشَفِيعُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْعَرَصَاتِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ وَآلِهِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

أُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فِي مَوْسِمٍ هُوَ مِنْ أَجَلِّ مَوَاسِمِ التَّقْوَى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].

فَيَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بَادِرْ إِلَى التُّقَى *** وَسَارِعْ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلْ

فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وَأَهْدَى سَبِيلَهَا *** بِهَا يَرْفَعُ الْإِنْسَانُ مَا كَانَ يَعْمَلْ

 

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: كُلُّ تَشْرِيعَاتِ اللَّهِ لَهَا مَقَاصِدُ سَامِيَةٌ، وَحِكَمٌ بَلِيغَةٌ، وَأَسْرَارٌ بَدِيعَةٌ، وَمَا كَانَ لِلْحَكِيمِ أَنْ يَشْرَعَ شَيْئًا دُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَائِهِ لِعِبَادِهِ مَنَافِعُ جَلِيلَةٌ، أَوْ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ؛ فَتَشْرِيعَاتُهُ؛ (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فُصِّلَتْ: 42]، وَهُوَ الْحَكِيمُ، وَقَلِيلٌ مَنْ يُدْرِكُ حِكْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ فِيهَا.

 

وَمِنْ تَشْرِيعَاتِ دِينِنَا وَأَحْكَامِهِ مَا يَكُونُ فِي ظَاهِرِهَا تَعَبٌ وَنَصَبٌ أَوْ جُوعٌ وَعَطَشٌ أَوِ امْتِنَاعٌ وَحِرْمَانٌ؛ كَشَرِيعَةِ الصِّيَامِ؛ لَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ مَقَاصِدَهَا وَتَتَبَّعَ حِكَمَهَا لَا يَجِدُ ذَلِكَ إِلَّا آثَارًا وَأَعْرَاضًا جَانِبِيَّةً لَيْسَ إِلَّا؛ وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعَاتِهَا هُوَ النُّمُوُّ الرُّوحِيُّ، وَالتَّهْذِيبُ النَّفْسِيُّ، وَتَعْزِيزُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ، وَتَقْوِيَةُ الرِّقَابَةِ الذَّاتِيَّةِ، وَالِارْتِقَاءُ الْأَخْلَاقِيُّ، وَالسُّمُوُّ السُّلُوكِيُّ، وَصَفَاءُ الْمَشَاعِرِ وَتَهْذِيبُهَا.

 

وَمِنْ هُنَا كَانَ مُهِمًّا أَنْ يُدْرِكَ الْعَبْدُ حِكَمَ الْعِبَادَاتِ وَمَقَاصِدَهَا وَأَسْرَارَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَأَهْدَافَهَا، لَا لِيَتَوَقَّفَ عَمَلُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا؛ بَلْ لِيَكُونَ أَنْشَطَ اجْتِهَادًا فِيهَا وَإِتْقَانًا، وَأَدْعَى لِإِخْلَاصِهِ وَمِنْ ثَمَّ قَبُولِهَا؛ يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "مَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ الشَّارِعِ كَانَ هُوَ الْفَقِيهَ حَقًّا".

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَلَمَّا كَانَتْ بَعْضُ التَّوْجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْإِرْشَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْمُبَاشِرَةِ الْقَاضِيَةِ بِفِعْلِ شَيْءٍ مَا، أَوْ بِتَرْكِ شَيْءٍ مَا، قَدْ لَا يَمْتَثِلُهَا الْبَعْضُ فَقَدِ اتَّخَذَ الْإِسْلَامُ أَسَالِيبَ تَرْبَوِيَّةً أُخْرَى؛ كَشَرِيعَةِ الصِّيَامِ، أَرَادَ مِنْ خِلَالِهِ الْوُصُولَ بِأُولَئِكَ الْبَعْضِ إِلَى تَحْقِيقِ تِلْكَ التَّوْجِيهَاتِ أَوْ بُلُوغِهَا سَوَاءً كَانَتْ قَلْبِيَّةً أَمْ سُلُوكِيَّةً.

 

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: إِنَّ الصِّيَامَ مَنْ أَعْظَمِ الشَّرَائِعِ غِذَاءً لِلرُّوحِ، وَمِنْ أَفْضَلِهَا تَعْدِيلًا لِلسُّلُوكِ؛ وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ السَّامِيَةُ مِنْ أَهَمِّ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ تَحْقِيقَهُ مِنْ خِلَالِهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ بَعْضُ نُصُوصِهَا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُوَ مَا قَدْ يَتَصَوَّرُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ وَغَيْرِهَا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ.

 

وَتَعَالَوْا بِنَا -أَيُّهَا الصَّائِمُونَ- نَسْتَعْرِضُ صُوَرًا مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ التَّرْبَوِيَّةِ، وَعَدَدًا مِنْ تِلْكُمُ الْأَهْدَافِ السُّلُوكِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ مَدْرَسَةِ الصِّيَامِ التَّرْبَوِيَّةِ:

أَوَّلًا: تَحْقِيقُ تَقْوَى اللَّهِ فِي الْقَلْبِ، وَتَعْزِيزُ قِيمَتِهِ، وَتَحْصِيلُ تَعْظِيمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ؛ فَتَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى- إِذَا غُرِسَتْ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَثْمَرَ كُلَّ فَضِيلَةٍ، وَنَبَذَ كُلَّ رَذِيلَةٍ؛ وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْغَايَةِ وَرَدَتْ مَقْرُونَةً بِفَرِيضَةِ الصِّيَامِ؛ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].

 

ثَانِيًا: تَهْذِيبُ الرُّوحِ وَإِصْلَاحُهَا، وَتَزْكِيَةُ الْمُضْغَةِ وَتَنْقِيَتُهَا؛ وَلَا غَرَابَةَ كَوْنَهَا مَحَلَّ نَظَرِ اللَّهِ -تَعَالَى-، كَمَا أَنَّهَا أَسَاسُ صَلَاحِ الْجَوَارِحِ وَاسْتِقَامَتِهَا وَتَقْوِيمِ سُلُوكِهَا؛ فَالْقَلْبُ سَيِّدُ الْجَوَارِحِ، وَمِنْهُ تَأْتِي الْأَوَامِرُ، وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لَهُ، وَمِنْهُنَّ تَحْصُلُ الِاسْتِجَابَةُ وَيَجْرِي التَّنْفِيذُ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، يَقُولُ الْإِمَامُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: "إِنَّ الصَّوْمَ يُسَكِّنُ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ؛ مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ".

 

ثَالِثًا: تَقْوِيَةُ الشُّعُورِ الْمُجْتَمَعِيِّ وَالرَّحْمَةِ بِالْآخَرِينَ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ يَعِيشُونَ حَيَاةً رَاقِيَةً خَاصَّةً يَتَقَلَّبُونَ فِيهَا بَيْنَ نِعَمِ اللَّهِ، وَرُبَّمَا لَا يَفْقِدُونَ شَيْئًا مِمَّا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ، وَلَوْ حُدِّثُوا عَنْ أَحْوَالِ الْمُعْدَمِينَ وَالْمُعْسِرِينَ وَمَأْسَاةِ الْمَنْكُوبِينَ وَالْمُتَضَرِّرِينَ وَدُعُوا إِلَى التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، رُبَّمَا مَا تَأَثَّرُوا لَهُمْ، وَلَا رَحِمُوا لِحَالِهِمْ، وَلَا حَدَّثَتْهُمْ نُفُوسُهُمْ بِإِسْهَامِ الْفُقَرَاءِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ وَإِشْرَاكِهِمْ مِنْ نِعَمِهِمْ؛ فَكَانَ الصِّيَامُ هُوَ الْوَسِيلَةَ التَّرْبَوِيَّةَ لِهَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ وَمَا أَكْثَرَهُمْ.

 

وَالْغَنِيُّ حِينَ يُؤَدِّي عِبَادَةَ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُمَارِسُ دُرُوسًا تَرْبَوِيَّةً عَمَلِيَّةً مِنْ حَيَاةِ الْفُقَرَاءِ، وَيَعِيشُهَا وَاقِعًا، وَيُدْرِكُ حِينَهَا مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ جُوعٍ وَعَطَشٍ وَيُعَانُونَهُ مِنْ حَاجَةٍ وَحِرْمَانٍ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الْغَنِيِّ لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ تَعَبُّدًا وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَاضِرَةٌ، فَإِنَّ الْمِسْكِينَ تَرَكَهَا تَعَبُّدًا وَهُوَ يَفْقِدُهَا، وَإِذَا كَانَ الْغَنِيُّ حُرِمَهَا شَهْرًا لَكِنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِهَا كُلَّ عُمْرِهِ، فَإِنَّ الْمِسْكِينَ حُرِمَهَا شُهُورًا وَمِنْهَا رَمَضَانُ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.

 

وَمِنْ هُنَا -عِبَادَ اللَّهِ- كَانَتْ مَدْرَسَةُ رَمَضَانَ التَّرْبَوِيَّةُ فُرْصَةً لِتَعْلِيمِ الصَّائِمِينَ الرَّحْمَةَ بِالْفُقَرَاءِ، وَمُوَاسَاتِهِمْ مِمَّا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِهِ وَخَصَّهُمْ مِنْهُ؛ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الصَّائِمِ: "إِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ".

إِنَّ الصِّيَامَ مُوَاسَاةٌ وَإِحْسَانُ *** قَضَى بِذَلِكَ قُرْآنٌ وَبُرْهَانُ

نِعْمَ الصِّيَامُ مَعَ الْمَعْرُوفِ تَبْذُلُهُ *** وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ الْحِرْمَانِ حِرْمَانُ

 

رَابِعًا: تَرْبِيَةُ الصَّائِمِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِجَابَةِ؛ فَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَرَدَتْ مُبَيَّنَةً عَدَدُهَا وَكَيْفِيَّتُهَا وَصِيَغُهَا وَكَذَا مَوَاقِيتُهَا؛ وَمِنْهَا الصَّلَاةُ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ، وَأَكْثَرُهَا حُضُورًا فِي حَيَاةِ الْعَبْدِ، وَنَتِيجَةً لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا خَاصَّةً، وَغَيْرِهَا عَامَّةً، مِنَ التَّفْرِيطِ وَالتَّسَاهُلِ شُرِعَ الصَّوْمُ تَرْبِيَةً لِلْعِبَادِ عَلَى الدِّقَّةِ وَحُسْنِ الِانْضِبَاطِ؛ لِأَنَّ مَوَاقِيتَهُ دَقِيقَةٌ، لَا مَجَالَ فِيهَا لِلتَّقْدِيمِ وَلَا لِلتَّأْخِيرِ؛ فَمَتَى طَلَعَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ لَزِمَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى مَنْ وَجَبَ فِي حَقِّهِ الصَّوْمُ؛ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)[الْبَقَرَةِ: 187].

 

وَفِي الْمُقَابِلِ مَتَى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِطْرُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبْلَهَا وَلَوْ بِدَقَائِقَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".

 

خَامِسًا: مِنْ دُرُوسِ رَمَضَانَ التَّرْبَوِيَّةِ تَعْدِيلُ أَخْلَاقِ الصَّائِمِ، وَتَقْوِيمُ سُلُوكِهِ، وَصَوْنُ جَوَارِحِهِ، وَكَفُّهَا عَنْ أَنْ تُمَارِسَ حَرَامًا أَوْ تُزَاوِلَ مُنْكَرًا؛ فَهَيْبَةُ رَمَضَانَ وَحُرْمَتُهُ وَتَصْفِيدُ الشَّيْطَانِ وَمَرَدَتِهِ، وَتَرْكُ الْعَبْدِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ تَعَبُّدًا لِلَّهِ -تَعَالَى- وَفِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ يُهَذِّبُ النُّفُوسَ وَيُزَكِّيهَا؛ وَحِينَهَا تَكُفُّ النُّفُوسُ أَوَامِرَهَا لِلْجَوَارِحِ بِفِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ تَرْكِ مَا يَنْبَغِي.

 

وَالنَّتِيجَةُ اسْتِقَامَةُ الْجَوَارِحِ، فَلَا تُقَارِفُ الْحَرَامَ أُذُنٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا لِسَانٌ وَلَا يَدٌ وَلَا رِجْلٌ؛ فَجَمِيعُهَا يُدْرِكُ قَوْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)، وَعِنْدَهَا نَفْهَمُ أَنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ مِنَ الْآثَامِ، وَهُوَ مَا أَدْرَكَهُ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَتَعَلَّمُوهُ مِنْ مَدْرَسَتِهِ؛ قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْجَارِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صَوْمِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً!!".

 

وَالْعَبْدُ -أَيُّهَا الصَّائِمُونَ- إِذَا أَدْرَكَ أَنَّ أَهْوَنَ الصِّيَامِ هُوَ تَرْكُ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ هُوَ كَفُّهُ عَنْ مَنَاهِي اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَاسْتِجَابَتُهُ لِمَرَاضِيهِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ مُمَارَسَتَهُ الطَّاعَاتِ وَتَجَنُّبَهُ الْمَنْهِيَّاتِ شَهْرَ رَمَضَانَ، سَيُصْبِحُ هَذَا دَرْسًا تَرْبَوِيًّا يَصِيرُ ثَقَافَةً دَائِمَةً لَدَيْهِ وَسُلُوكًا مُسْتَمِرًّا بَقِيَّةَ عَامِهِ.

 

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صَلَاحَ الْحَالِ وَالنِّيَّةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْمَآلِ؛ قُلْتُ مَا قَدْ سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ أَنْبِيَائِهِ وَأَفْضَلِ رُسُلِهِ؛ وَبَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَادِسًا: مِنَ فَوَائِدِ الْصِّيَامِ التَّرْبَوِيَّةِ؛ أّنَّهُ يَرَبِّي عَلَى خَلْقِ الِانْضِبَاطِ بَدَلًا مِنَ الِارْتِجَالِيَّةِ، وَدِقَّةِ الْمَوَاعِيدِ بَدَلًا مِنَ الْعَشْوَائِيَّةِ، وَالْعَمَلِ وَفْقَ الْمِزَاجِ؛ خُصُوصًا لِمَنْ فَقَدَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ، أَوْ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ رِقَابَةٌ بَشَرِيَّةٌ؛ فَرَمَضَانُ هُوَ مَدْرَسَتُهُ التَّرْبَوِيَّةُ لِتَطْبِيقِ هَذِهِ الصِّفَةِ النَّبِيلَةِ، وَتَحْقِيقِ هَذِهِ الْقِيمَةِ الْجَمِيلَةِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ فَلَا تُمْسِكُوا، وَلَكِنْ أَمْسِكُوا إِذَا أَذَّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"؛ وَالصَّائِمُ إِذَا ضَبَطَ فِي رَمَضَانَ مَوَاعِيدَ سُحُورِهِ وَفِطْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَرَاوِيحِهِ وَقِيَامِهِ؛ فَسَيُصْبِحُ هَذَا الْخُلُقُ صِفَةً بَارِزَةً فِيهِ، وَخُلُقًا مَوْسُومًا بِهِ طَوَالَ حَيَاتِهِ بَعْدَ عَوْنِ اللَّهِ.

 

سَابِعًا: الصِّيَامُ يُرَبِّي الْعَبْدَ عَلَى الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَكَتْمِ الْغَيْظِ؛ وَفِيهِ يَتَمَثَّلُ الصَّائِمُ كُلَّ صُوَرِ الصَّبْرِ؛ فَيَصْبِرُ عَلَى طَاعَةِ الصِّيَامِ مُؤْمِنًا بِشَرْعِيَّتِهِ، مُحْتَسِبًا أَجْرَهُ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَا مُنِعَ فِيهِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ فِي غَيْرِهِ، وَصَارَ فِيهِ مِمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، وَصَبَرَ عَلَى تَبِعَاتِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ مِنْ تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَجُوعٍ وَإِرْهَاقٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الصَّائِمَ عَلَى صَوْنِ صَوْمِهِ بِإِمْسَاكِ جَوَارِحِهِ، وَضَبْطِ تَصَرُّفَاتِهِ؛ فَقَالَ: "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ؛ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)، وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، يُذْهِبْنَ وَحْرَ الصَّدْرِ".

 

إِنَّ الصِّيَامَ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَوَارِحِ؛ فَهُوَ يُعْطِي الْعَبْدَ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ فِي ضَبْطِ غَضَبِهِ، وَكَبْحِ حِدَّتِهِ، وَالصَّائِمُ إِذَا لَزِمَ الصَّبْرَ خِلَالَ شَهْرِهِ فَسَيَخْرُجُ مِنْ مَدْرَسَةِ رَمَضَانَ بِنَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَخُلُقٍ لَيِّنٍ، وَإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، يُمَارِسُهَا سُلُوكًا وَيَعِيشُهَا وَاقِعًا.

 

عِبَادَ اللَّهِ: صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَزِدْنَا عِلْمًا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ، وَالْهُدَى وَالرَّشَادَ، وَعَلَيْكَ الِاتِّكَالُ وَمِنْكَ الِاسْتِمْدَادُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

رمضان.. مدرسة الارتقاء الروحي والأخلاقي.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات