اقتباس
إن على من ولاهم الله -تعالى- أمانة المرأة والحفاظ عليها مسؤولية كبرى في فعل ما يفيدها ونبذ ما يضرها، سواء في ذلك الآباء أم الإخوة أم الأعمام، فالولاية مسؤولية وقيام بالتكليف والحقوق وليست إهدارًا للكرامة وتسلطًا وتحكمًا في رقاب النساء بلا داعٍ، بل...
لا تزال مشكلة العنوسة وما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية خطيرة في تفاقم مستمر لاسيما في أوساط النساء والفتيات مقارنة بالرجال والشباب، ولا يزال هناك من يعضل النساء عن الزواج، ويمارس عليهن أقسى أنواع الظلم الاجتماعي، ويحرمهن أبسط حقوقهن التي كفلتها لهن الشريعة الإسلامية وهي الزواج والتمتع بالإنجاب والعشرة الطيبة وإقامة أسرة تسهم في نهضة المجتمع المسلم وبناء حضارته، وذلك رغم ما يمارسه المصلحون والعلماء والدعاة في هذا الجانب من توعية بأخطار هذه الممارسات على الفرد والمجتمع.
إن على من ولاهم الله -تعالى- أمانة المرأة والحفاظ عليها مسؤولية كبرى في فعل ما يفيدها ونبذ ما يضرها، سواء في ذلك الآباء أم الإخوة أم الأعمام، فالولاية مسؤولية وقيام بالتكليف والحقوق وليست إهدارًا للكرامة وتسلطًا وتحكمًا في رقاب النساء بلا داعٍ، بل إن حكمة الله -تعالى- اقتضت أن تكون ولاية المرأة بيد الرجل -زوجًا أو أبًا أو أخًا- لما في النساء من ضعف؛ وما في الرجال من قوة تمكنهم من المحاربة لانتزاع حقوق النساء ممن يهددها أو يحاول الاستيلاء عليها، أما ما يفعله بعض الرجال أو أنصاف الرجال من تحكم وتسلط واستقواء على ضعيفات لا يملكن حيلة لدفع ظلمهم فهو ليس من الإسلام ولا من الرجولة، بل جاء التوجيه النبوي بخلافه؛ حينما وصّى –صلى الله عليه وسلم- في آخر كلمات حياته بالنساء فقال: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"، ولا يخفى ما في وصية آخر الحياة من أهمية، وما تنطوي عليه من اهتمام بذلك الكائن الضعيف الذي قد تضيع حقوقه إن لم يقيض الله -عز وجل- له من يرعى مصالحه ويجلب مستحقاته. إن الاستيلاء على مال المرأة أو ميراثها بحجة أنها لا تزال عزباء في بيت أبيها، وتآمر الأولياء في ذلك وتخطيطهم لأجل وقف زواج المرأة بأي شكل وبأي مبرر كان، لهو ضربة قاصمة في صلب الرجولة التي حبا الله -تعالى- بها الذكور، فالرجولة ليست ألفاظًا تُنطق باللسان دون أن يكون لها استحقاقات وعلامات تدل عليها، فأي رجل هذا الذي يرتضي أن يعيش من مال استولى عليه من امرأة؟! وأي رجل هذا الذي يرتضي لنفسه أن يقف حجر عثرة في سبيل سعادة إنسانة في إعفاف نفسها وتكوين أسرة وإنجاب أبناء صالحين؟! وأي رجل هذا الذي يرتضي لنفسه أن يعضل فتاته بحجة حجرها على فتيان العائلة أو القبيلة أو البلدة؟!
إن هذه المبادئ فيها من العصبية والجاهلية ما فيها، حيث تعظيم الأنساب والقبيلة وتقديمها حتى على إيصال الحقوق إلى أصحابها، فهذا مما نبذه الإسلام وحثّ على ضده، فـ"لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، وهي كذلك من دعاوى الجاهلية المقيتة التي احتقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "دعوها؛ فإنها منتنة"، وهي دعاوى تفريق وتفتيت للمجتمع المسلم الذي ينبني في الأساس على تشييد أواصر التجمع والترابط ونبذ العصبية الجاهلية التي كانت سببًا في إشعال الحروب بين القبائل العربية قبل الإسلام عشرات السنوات، فحرب البسوس -على سبيل المثال- استمرت قرابة أربعين عامًا بسبب خلاف بين قبيلتين على ناقة، وداحس والغبراء مثلها بسبب سباق بين فرسين، لذلك كانت تسيطر مبادئ القبلية المقيتة على المجتمع الجاهلي بسبب تلك النعرات العصبية، وكان أهلها على استعداد لإشعال فتيل الحرب وإزهاق مئات وآلاف الأرواح على مدى سنين عديدة لأجل ما قد ينغص على القبلية عصبيتها، عظيمًا كان أم حقيرًا.
إن أحد جوانب حل هذه المشكلة المتأصلة –مشكلة العضل- هو معالجة أهم المشكلات الأصلية التي تفرعت عنها، وهي مشكلة التعصب والقبلية المقيتة التي يعاني منها مجتمعنا مع الأسف، والتي نعيشها واقعًا يهدد السلام المجتمعي، فأي حديث عن مجتمع مسلم واحد في ظل هذه العصبية؟! وأي جدوى من جهودٍ يبذلها المصلحون من أجل تعاون الأمة على البر والتقوى وإصلاح ما أفسده المفسدون في ظل تفتت المجتمع إلى قبائل وأحزاب تزيده اختلافًا وتشتتًا؟!
إن الانتماء للقبيلة والعمل لها والتضحية من أجل أفرادها أمر لم يُحَرِّجْه الإسلام، ولا رغب عنه، مادام في الحدود التي حدها الله -تعالى- للانتماء القبلي أو الوطني، إنما حرَّج أن يكون الولاء للقبيلة والانتماء إليها مقدمًا على كل قيمة من قيم الحياة والدين، وأن تصبح القبيلة إلهًا يُعبد من دون الله -تعالى-، تُنتهك باسمها الحرمات، وتؤكل في سبيلها الحقوق. وهذا ما يقع مع كثير من النساء بحجة الانتماء للقبيلة، وما هي إلا حمية الجاهلية.
لقد كانت القبلية والعصبية الجاهلية سببًا في احتلال دول وسقوط حضارات كانت أكبر حضارات الدنيا، إلا أن أهلها كفروا بنعمة الله -تعالى- واستقووا بالكافرين على المسلمين؛ تكريسًا لتلك الطائفية المقيتة، وإذكاءً لنار تلك الأحقاد العصبية الكريهة، فما رضوا بأن يقاسمهم إخوانهم الذين هم من بني جلدتهم حكم بلادهم، واستقووا بأعدائهم على إخوانهم في العقيدة حتى لا تحكمهم أو تغلبهم أو تستأسد عليهم قبيلة أو قرية بني فلان، وهذا ما وقع في الأندلس؛ لقد أبيدت حضارة الأندلس العظيمة التي تفاخر بها الغرب والمسلمون عن بكرة أبيها ولم يبق منها سوى أطلال يشدو بأغانيها المطربون، وينوح عليها النائحون، بسبب هذه الفتنة، ووجد النصارى بغيتهم في ممالك مسلمة متقاتلة متكارهة متباغضة، وسعوا بنار الفتنة بين الملوك والأمراء، حتى كان الصليبيون أحب إليهم من أهليهم وذويهم، فمهدوا لهم السبيل، وفرشوا لهم الأرض بالأزهار والرياحين، وسلموا لهم البلاد على طبق من ذهب، ليعملوا فيها القتل والتشريد والتعذيب في محاكم التفتيش الشهيرة، حتى اضمحل الإسلام من الأندلس وتلاشت معالمه فلم يبق منها سوى ذكريات.
إن هذه ثمرة واحدة من الثمار الخبيثة المعطوبة للتعصب والقبلية، وهذا أثرها الكئيب على الدول والمجتمعات، فكيف بالأسر والعائلات والقبائل والبلدات الصغيرة، إن لها أثرًا أشد وقعًا وأشد تنكيلاً. فعلى مصلحي الأمة أن يتنبهوا لمثل هذه الأمراض الخطيرة التي تسري في جسد الأمة فتمزقه أشلاءً متناثرة، وأبضاعًا متشققة، وعلينا النظر إلى أصل الأدواء فنعاجلها، لا أن نذهل عنها وننشغل بقضايا فرعية أو مظاهر للمرض دون الغوص في أسبابه الحقيقة. أما المجتمع النبوي فقد تمكن من الانتصار على هذه العصبية القبلية -التي كان يقوم عليها المجتمع الجاهلي ويرتكن عليها ويرهن وجوده بوجودها- ويقضي عليها تمامًا، وذلك من خلال تنمية الانتماء إلى الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، وتنمية مفهوم التقوى واعتباره المعيار الحقيقي في تحقيق الأفضلية في الدنيا والآخرة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]، فليس للون والجنس والقبيلة والوطن حساب عند الله -تعالى-، وإنما ثمة ميزان واحد تتحدد به القيم ويعرف به فضل الناس، وهو التقوى، فهكذا تسقط جميع الفوارق وتسقط جميع القيم ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وهكذا تتوارى وترخص جميع العصبيات التي يتكالب عليها الناس، وتتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض وتضمحل، ويرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس والأرض والقبيلة. لقد أقام الإسلام نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله -تعالى-، لا راية الوطنية ولا القومية ولا الجنس ولا القبيلة، فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام، فبنظامه الجديد بات "سلمان -الفارسي- منا أهل البيت"، وبنظامه الجديد علا بلال الحبشي أبا جهل الشريف النسيب، وبنظامه الجديد صُهر الروم والفرس والأحباش والقرشيون والعرب جميعًا في بوتقة الإيمان، وبنظامه الجديد أسس الموالي حضارة تتضاءل إلى جانبها حضارات الدنيا، وبنظامه الجديد جلس البخاري وابن رشد وابن حزم وأبو حنيفة –وهم من الأعاجم نسبًا- على رأس الهرم العلمي والحضاري والفكري الإسلامي في قرون النهضة.
ولم يكتفِ الإسلام بالهيئة الظاهرية للنظرية أو بالحثّ الكلامي عليها، ولكن أكَّدها بتطبيقات عملية واقعية ترسِّخ المفهوم وتحدث صدمة للمجتمع القبلي، فزوّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينت بنت جحش ابنة عمته القرشية النسيبة إلى ذلك العبد الصالح المتبَنَّى زيد بن حارثة، محطمًا بذلك الفوارق الطبقية الغرورة والقبلية المذمومة، ومقررًا هذه القيمة الإسلامية الرفيعة بواقع عملي طبَّقه أولاً على نفسه، فاتحًا به باب التأسي والاقتداء.
وثمة جانب آخر قد يكون أشد ضررًا على المجتمع المسلم في ممارسة هذا التضييق على المرأة وعضلها عن الزواج بالكفء؛ حيث تنشأ في المجتمع مشكلات جديدة كان في غنى عنها لو أقيم على النهج الصحيح في التعامل مع البنت والفتاة؛ فمن أخطر ما قد يظهر من أمراض بسبب هذه الممارسة الخاطئة تزويج غير الأكفاء خلقيًّا ودينيًّا بحجة عدم انتمائهم للقبيلة، وتقديم غير الكفء وتزويجه ومساعدته لانتمائه لها؛ ما قد ينشأ عنه خلل دامٍ في الأسرة المسلمة؛ فتُبنى الأسرة على غير الهدي النبوي في اختيار صاحب الدين والخلق: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير"، فتنشأ الأسرة وأفرادها على غير الهدي النبوي في إنشاء وتكوين البيوت، وبالتالي ينشأ الأطفال نشأة مهترئة غير سوية، لا أخلاق فيها ولا أدب ولا ديانة، وهو ما يؤثر في المجتمع ككل؛ حيث هو مجموعة من الأسر الصغيرة.
إن الاهتمام الإسلامي بالأسرة وتنشئتها تنشئة سليمة، كان إيمانًا بأن الأسرة هي لبنة المجتمع، والمكون الرئيس له، فإن فسدت وتداعت ففي ذلك هلاك المجتمع بأكمله، وإن صلحت ونشأت بصورة صحية وتربى أفرادها وأبناؤها على الخلق القويم والدين والمبادئ والقيم كان في ذلك تقدم للمجتمع بالكامل، ولا شك أن هذه التصرفات من قبل الأولياء تعيق بناء الأسر بناءً صحيًّا سليمًا، هذا إن نشأت أصلاً، فهي أحيانًا لا تنشأ بسبب استفادة الولي الجائر من مال ابنته أو راتبها، فهو يوقفها ليحصل على أكبر قدر ممكن من المال، وهو بذلك يهدر طاقتها التي حباها الله -تعالى-، المتمثلة في قدرتها المذهلة وتمكنها بجدارة من تربية الأبناء وإنشاء الأجيال على أكمل الأوجه، وهي طاقات وقدرات يفتقر إليها الرجال مهما بلغوا من علم وقدرة على التعامل مع المشكلات، فهذا من خصائص المرأة التي تميزت بها تميزًا كبيرًا عن الرجل. فقيمة كل امرئ ما يحسنه.
إن هذه المشكلة تكاد تعصف بفتيات مجتمعنا وتهدد بانحرافهن عن الطريق القويم؛ نظرًا لما فيهن من احتياجات عاطفية ونفسية وجسدية للزواج، وحسب الأرقام الرسمية فإن قضايا العضل في ازدياد وتضاعف كل عام، وهذا نذير سوء، فإنه يفترض في هذه الأرقام أن تتضاءل باتساع رقعة الثقافة والتدين والالتزام بدين الله -عز وجل-، ولكن ضد ذلك هو ما يحدث؛ لذا فإن الأمر يحتاج وقفة من مسؤولي هذا البلد وعلمائه ودعاته واختصاصييه، للتصدي لها بنشر الوعي الديني والاجتماعي، وتنمية روح الانتماء الإسلامية، وقتل العصبيات التي لا أساس شرعيًا لها.
وقد اخترنا لخطبائنا ودعاتنا في هذا الأسبوع مجموعة من الخطب التي تصب كلها في هذا الاتجاه؛ لننشر هذه الثقافة في المجتمع، وننمي الوعي بالقضية فيه، سائلين الله -تعالى- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجمعهم على طاولة الإسلام، وأن يزيل من قلوبهم التعصب والتحزب المقيت.. والله المستعان.
التعليقات