اقتباس
أي حياة روحية هذه التي نحياها في رمضان؟ هذي قلوب وجلة ونفوس خاشعة وعيون دامعة وأخلاق سامية وأيد باذلة معطية وأفئدة متراحمة متعاطفة... هذي أرحام موصولة وأمهات مبرورة وصلات مبذولة وزلات مغفورة... هي أرواح على الطاعة أقبلت ومن المعاصي فرت وأدبرت... هي دنيا غير الدنيا وعالم غير الذي نعرفه!...
حللت أهلًا ونزلت سهلًا يا رمضان، ضيف كريم جاء بعد اشتياق، لقد انتظرناك طويلًا؛ أحد عشر شهرًا كاملة ونحن نتوق ونحِنُّ ونشتاق إلى أن تعود إلينا، وها قد أذن الله لك أن تعود. إنا ما زلنا نذكر ذلك اليوم الذي غادرتنا فيه العام الماضي؛ لقد تركتنا والعيون منا دامعة على فراقك، والقلوب منا جائعة إلى عناقك، والأرواح منا ظمأى إلى لقائك، إننا لنذكر تلك الساعة؛ ساعة فراقك وكأنها هي الآن، ساعتها سألنا الله -تعالى- أن يعيدك علينا أعوامًا عديدة ويبلغنا إياك أزمنة مديدة، وها قد أذن الله لك أن تعود فعدت. فلكم -أيها المسلمون- البشرى بقدوم رمضان، نبشركم به كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر به أصحابه -رضي الله عنهم- فيقول: "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم" (ابن ماجه وصححه الألباني)،
نعم نبشركم، وكيف لا نبشرك بشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار! كيف لا نبشركم بشهر تفتح فيه أبواب الجنان فلا يغلق منها باب، وتغلق فيه أبواب الجحيم فلا يفتح منها باب، وتسلسل فيه مردة الجن والشياطين؟! كيف لا نفرح ونبتهج ونسعد بقدوم شهر تمتلئ فيه المساجد بالمصلين وبالذاكرين وبالداعين وبالمرتلين لكتاب رب العالمين؟! كيف لا نشتاق إلى شهرٍ المقبلون فيه على الطاعة كثير، والمعرضون عنها قليل؟! كيف لا نتمنى لقاء هذا الشهر والمنادي ينادي في كل ليلة من لياليه: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"؟!
كيف لا ننتظره على أحر من الجمر ونحن نعلم أن من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه؟! كيف لا نحرص عليه وفيه ليلة القدر؛ ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، ولا يحرم خيرها إلا محروم؟! يا رمضان: بأي شيء نستعد لك؟ أبزينة وورود وأنوار؟ جميل وحُقَّ لنا، أم بفرحة وسرور وحبور؟! بلي، وهل نفرح بأعظم منك! لكننا قد أعددنا لك -يا رمضان- مع الزينة والفرحة: توبة نصوحًا وإقلاعًا عن كل الذنوب، وأعددنا لك: نية صالحة خالصة على الطاعات والقربات من صوم وتلاوة قرآن وقيام وصدقات وصلات، وأعددنا لك قلبًا طاهرًا من الأحقاد والأضغان، وأعددنا لك عزمًا وجلدًا وقوة نستعين بها على المواظبة على العبادات ومكافحة الكسل والفتور، وأعددنا لك تفرغًا من المشاغل والشواغل والأعمال...
أيها الشهر الفضيل الكريم، يا نفحة من نفحات الله، ويا نعمة من نعمه: إنا قد عقدنا العزم على أن نستقبلك خير استقبال، وأن نصومك كما لم نصم من قبل، وأن نقومك كما لم نقم من قبل، طاردين الجمود والتواني، محاربين التسويف والأماني، مسابقين الدقائق والثواني، آملين في العفو والجنان، حرصين على السمو والمعالي... مستعينين على كل ذلك بالله القدير الكريم الفعال. فيا حبيبًا طال شوقنا إليه: هذا بعض ما أعددناه لاستقبالك: فرحة صادقة ونية خالصة، وعزيمة قوية، وتوبة نصوحًا، وعزمًا فتيًا، وقلبًا غضًا طريًا، ويدًا متخففة من مشاغل الدنيا.
ولا عجب ولا غرابة في حفاوة استقبال المسلمين لشهر رمضان وسعادتهم به أيما سعادة؛ فإنه قد حوى من الفضائل والمزايا ما لم يجتمع لشهر سواه، فله مكانة ومنزلة ورتبة ومناقب، وهاك بعضها: أولًا: اختصه الله -تعالى- بنزول الكتب السماوية فيه: فعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنزلت صحف إبراهيم -عليه السلام- في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان" (أحمد)، فهذه الكتب السماوية الخمسة أنزلها الله -تعالى- كلها في رمضان، ولم ينزل منها شيء في غيره، فهل هذا إلا لمزيد فضل ومزية اختص الله -تعالى- بها رمضان؟! ثانيًا: اختاره الله ليوجب صيامه على المسلمين: فجعل صيامه اختياريًا فترة حتى اعتادوه، ثم جعله عليهم فريضة محكمة قائلًا لهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[البقرة: 183-185]، فلا صيام فريضة إلا في رمضان وحده، وكل صيام سواه فهو نفل وتطوع. ثالثًا: جعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر: فأنزل فيها سورة كاملة تقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 1-5]، وقد بانت من هذه السورة مزية تلك الليلة؛ لقد أُنزل فيها القرآن الكريم، قال الله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 3-4
ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان وفي العشر الأواخر منه، وفيها أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجمًا حسب الوقائع والأحداث، فإنه "لو أنزل جملة واحدة لضلت فيه الأفهام وتاهت فيه الأوهام؛ فهو كالمطر لو نزل من السماء دفعة واحدة لقلع الأشجار وخرب الديار" (انظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني). رابعًا: ختمه بعيد الفطر الذي يأتي بعده كمكافأة للصائمين القائمين: ففيه تكتمل الفرحة بالفطر والتكبير، يقول العلي الكبير -سبحانه وتعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185]، فقوله -تعالى-: (ولتكبروا الله على ما هداكم) أي: "لتعظموه على ما أرشدكم إلى ما رضي به من صوم رمضان، قال ابن عباس: "هو تكبيرات ليلة الفطر"، وهو مروي عن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما-، وقال:" حق على كل مسلم أن يكبر ليلة الفطر إلى أن يفرغ من صلاة العيد" (تفسير السمعاني). خامسًا: أجرى الله -تعالى- فيه الأحداث العظام على هذه الأرض: ففيه وقعت غزوة بدر الكبرى، أو قل: يوم الفرقان، وفيه غزوة تبوك التي تسمى العسرة، وأحداث أخر ضخام عظام منها ما غيَّر مجرى التاريخ كله، كموقعة عين جالوت التي كسر الله -تعالى- بها طغيان التتار فلم تقم لهم بعدها قائمة، فقد كان هذا النصر العظيم للمسلمين على المغول في رمضان أجراه الله -عز وجل- على يد المظفر قطز -رحمه الله-.
وفيه فتح الله -تعالى- البلد الحرام مكة على المسلمين، فدخلوه وطهروا الكعبة من الأصنام، وعاد المسلمون بعد هذا الفتح العظيم إلى مكة أعزة بعد أن خرجوا منها هاربين خائفين مطارَدين، وقد سمى الله -تعالى- فتح مكة في القرآن -على أحد أقوال المفسرين-: "فتحًا مبينًا" و "نصرًا عزيزًا" حيث قال الجليل -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)[الفتح: 1-3]، وقيل أيضًا أن فتح مكة الذي تم في رمضان كان إيفاءً لوعد الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[القصص: 85].
هذا، ودائمًا ما يسأل المرء نفسه حين يرتقي الصيام بروحه وبأرواح من حوله: أي حياة روحية هذه التي نحياها في رمضان، هذي قلوب وجلة ونفوس خاشعة وعيون دامعة وأخلاق سامية وأيد باذلة معطية وأفئدة متراحمة متعاطفة... هذي أرحام موصولة وأمهات مبرورة وصلات مبذولة وزلات مغفورة... هي أرواح على الطاعة أقبلت ومن المعاصي فرت وأدبرت... هي دنيا غير الدنيا وعالم غير الذي نعرفه! إذًا فهي فرصة سانحة لك -أيها الخطيب- لتأخذ بأيدٍ جاءت إليك منيبة تائبة، ولتثبِّت قلوبًا أقبلت عليك نادمة مشفقة، ولتدل أناسًا قد سعت في الطاعات محسنة متفضلة... هي فرصة فلا تضيعها، فقد لا تتيسر لك فرصة مثلها إلا بعد عام كامل، جاءوك فدخلوا عليك مسجدك دون أي عناء منك، جلسوا بين يديك يبغون الهدى والنور والدلالة على الخير، فقد أصبح علمك عندهم مطلوبًا وتذكيرك إياهم محبوبًا ووعظك وأمرك ونهيك مستساغًا مقبولًا، عقد الناس عليك الآمال بعد الله، فإياك -أخي الخطيب- أن تخذلهم أو تضيعهم! فصِلْهم بربهم ودُلَّهم على طريقه وأوقفهم ببابه وقلِّبهم في رحابه... علِّمهم دينهم ومسِّكهم بقرآنهم وعلِّقهم بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-... اربطهم بالمسجد وحببهم في رواده وأذقهم فيوضاته... عوّدهم أن يندموا إن فرطوا ويتوبوا إن قصَّروا ويرجعوا مهما ابتعدوا... ولا تغضب مني إن قلت لك: إن ربك سيحاسبك إن خذلتهم وقد جاءوا يبغون عندك النجاة والصلاح، ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته..." (متفق عليه)، فأنت راع في مسجدك وأنت مسئول عن رعيتك، أما سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهو يروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع؟" (النسائي في الكبرى)، وإن الناس تظنك أهلًا للمسئولية حريصًا على الدعوة، فلا تخيب ظنهم فيك.
ولأن التعاون على الخير محبوب جميل، بل هو أمر الله -تعالى- إذ يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2]، فإننا في ملتقى الخطباء نحاول معاونتك بهذا الملف العلمي عن شهر رمضان، والذي أردنا له أن يأتي جامعًا لأغلب ما يشتمل عليه ذلك الشهر المبارك من معان وفيوضات وأعمال صالحات... فبدأنا بمكانة شهر رمضان وفضائله، ثم ثنينا بأحكام الصيام والقيام الفقهية، ثم عرجنا على ثمراتهما وبركاتهما وفوائدهما الجسدية والروحية، ثم انتقلنا إلى ما وقع في رمضان من أحداث ووقائع وانتصارات، ثم ما زال بنا الترحل حتى وصلنا إلى العشر الأواخر من رمضان، وعندها خصصنا منها ليلة القدر، ولم ننسى قبل أن نغادر رمضان أن نودعه ونتواصى بالمداومة على ما اعتدنا من خير طوال أعمارنا. وقد انتظمت هذه الأمور في عدة محاور -كما سترى- كل محور يحوي عدة نقاط، وقد خدمنا كل نقطة منها بمواد مكتوبة ومسموعة ومرئية..
التعليقات