اقتباس
فما أحوج المسلمين اليوم في غربتهم الآخرة إلى من يغذي قلوبهم بغذاء الإيمان، ويرتفع بهم عن دنايا الأرض كي يصلوا إلى عباب السماء، لترتقي علاقاتهم، وتصفو روابطهم، وتسمو أرواحهم بالأخوة الإيمانية عميقة الجذور!! ما أحوجهم إلى من يقتبس من نور الشريعة الغراء قبسًا يقذفه في قلوب المسلمين، فيقتل النزاعات العرقية، والعصبيات الحزبية والمذهبية، فيعلي فيهم روح المحبة والإخاء والعدالة ...
من أكبر النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده نعمة الأخوة في الله، التي سببها الإيمان والعقيدة، فهي قائمة على أوثق عرى الإيمان كما في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، فهي أسمى علاقة وأقوى رابطة يمكن أن تكون في مجموعة من البشر، لأن لها سببًا سماويًّا رفيعًا، وما دونها من علاقات النسب والمصاهرة قد لا تبلغ معشار ما فيها من خير؛ فهي علاقات جبرية تنقصها أحيانًا الرابطة الإيمانية التي تهز القلب وتغير توجهاته.
فقلتُ أخي قالوا: أخٌ من قرابة *** فقلت لهم إن الشُّكُول أقاربُ
نسيبي في رأيي وعزمي وهمَّتي *** وإن فرّقَتْنا في الأصولِ المناسِبُ
إن أهمية رابطة الأخوة الإيمانية تنبثق من أهمية الإيمان نفسه في قلوب حامليه، لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مكة ثلاث عشرة سنة كاملة على معاني الأخوة الإيمانية العميقة، ثم أتبعها ببضع سنين في المدينة قبل أن تتنزل عليهم التكاليف الشرعية والقتالية، ولم يستكثر هو وأصحابه رضوان الله عليهم هذه المدة، بل كان يعلم علم اليقين مدى تأثير هذه المرحلة الفارقة في تاريخ أصحابه في تاريخ الإسلام كله فيما بعد، فالإسلام الذي انتشر في ربوع الأرض فيما بعد كان أثرًا من آثار هذه التربية الإيمانية العميقة التي جذّرت الأخوة في صدور أصحابه، ولم يتأفف أيضًا هؤلاء الأصحاب ولا تساءلوا: إلى متى نربي تلك المشاعر دون أن نعمل؟! بل كانوا مدركين لأهمية ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا فإنه لما تم تفعيل تلك الأخوة في المدينة بعد الهجرة مباشرة ضربوا أروع الأمثلة في إنكار الذات والتضحية لأجل بعضهم.
هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غربتهم الأولى، غذى القلوب قبل أن يغذي الأبدان، ربط القلوب برباط الإيمان، وغلفها بغلاف التقوى، وسقاها بماء الأخوة، فهشمت الصخور، وشقت البحار، وغزت المفاوز والقفار، فما أحوج المسلمين اليوم في غربتهم الآخرة إلى من يغذي قلوبهم بغذاء الإيمان، ويرتفع بهم عن دنايا الأرض كي يصلوا إلى عباب السماء، لترتقي علاقاتهم، وتصفو روابطهم، وتسمو أرواحهم بالأخوة الإيمانية عميقة الجذور!! ما أحوجهم إلى من يقتبس من نور الشريعة الغراء قبسًا يقذفه في قلوب المسلمين، فيقتل النزاعات العرقية، والعصبيات الحزبية والمذهبية، فيعلي فيهم روح المحبة والإخاء والعدالة، ويقتل فيهم كل معاني الشر والجاهلية والتعصب المقيت للقبيلة والشيخ والمذهب!!
إننا في ظل تفشي الظلم والشر بين الناس نحتاج إلى إعادة ثقافة الأخوة بين الناس، والتزام المنهج النبوي الراقي في التعامل مع الآخرين، لا سيما إن كانوا من ديننا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتهجون نهجنا، فهم أولى الناس بنا وبطيب كلامنا وبرفق أحوالنا، ونحن أولى الناس بهم وبحسن حديثهم وابتسامة محياهم.
وبمثل هذه الروح النبوية الرقراقة نستطيع اختصار الزمان الذي يُنفق في البحث عن آليات للتعارف والتواصل مع إخواننا في الملة، فبين أيدينا منهج تربوي نبوي فريد يبني الشخصية المسلمة الحقة، ويربطها بإخوانها عن طريق منهج رباني لا مثيل له، فتنتج أشخاصًا هي مصاحف تمشي على الأرض، تقاتل وتجاهد وتدعو إلى ربها وهي صف واحد، بنيان مرصوص، لا يصده عن هدفه صادٌّ مهما بلغت به القوة، ولا تزحزحه رياح الجاهلية مهما بلغت إمكاناتها وقدراتها، فهم على قلب رجل واحد، يدينون بدين واحد، يصلون إلى قبلة واحدة، ويتعبدون إلى رب واحد.
لقد آمن إخوانكم في ملتقى الخطباء بأهمية هذه الأخوة الإيمانية التي لا تقاس بها رابطة أخرى على هذه الأرض، لذا فإنهم يدعونكم -معاشر الخطباء- إلى بذل مزيد من الجهد إزاء هذه القضية التربوية والإيمانية المؤثرة، فربما تكون كفيلة بالقضاء على الكثير من الأمراض المجتمعية الخطيرة التي تنشأ بين أفراد الجماعة الإسلامية المؤمنة، لذا فقد اخترنا لكم في هذه المجموعة من المختارات عددًا من الخطب التي تدور في فلك هذا الموضوع، كي نتعرف كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على معاني الأخوة الإيمانية العميقة، والوسائل المعينة على ذلك، مشيرين إلى ما قد يفسد جمال هذه الأخوة ويعكر صفوها، راجين الله تعالى أن يعمق ما بيننا من أواصر الإسلام العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات