اقتباس
ومما يلفت النظر في هذه الآية أن شعيبًا -عليه السلام- قد نهاهم عن الإفساد بعد الإصلاح قائلًا: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)؛ فإن أقبح وأشنع أخطر ما يكون الإفساد إن حدث والخير قائم وثابت ومستقر، يقول ابن كثير مفسرًا: "ينهى -تعالى- عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد، فنهى الله -تعالى- عن ذلك"... فعند ذلك يتضاعف وزر المفسد الذي ساق غيره إلى الفساد وقد كانوا في عافية منه، ولطخهم بالأوزار والأدناس وقد كانوا منها بُرَآء.
يقال: "فساد"، ويقال: "إفساد" فما الفرق بينهما؟ أقول: الغالب أن الفساد يقع في الشيء بلا تدخل من أحد، فنقول: "فسد اللحم" أذا نتن، و"فسد الرجل" أي: فسق، واسم الفاعل منه فاسد، فهو فاسد في نفسه غير متعد لإفساد غيره، وضد الفاسد الصالح.
أما الإفساد فهو إيقاع الفساد في الغير، يقال: "أفسد الصديق صديقه" أي: سعى في إفساده بدلالته على قبائح الأمور، واسم الفاعل منه "مفسد"، وضد المفسد المصلح... مع أن اللفظين قد يشتركان في بعض المعاني ويستخدم هذا مكان ذاك.
أما عن العلاقة بين الفساد والإفساد فهي أنه: كل إفساد من البشر يعقبه فساد في الكون، وقد ظهرت هذه العلاقة جلية في قول الله -عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]؛ الآية تقول: "الفساد ظهر"، وكأن سائلًا سأل: وما سبب ظهور الفساد؟ فأجابت الآية: "بإفساد الناس" فهو معنى قوله -تعالى-: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)...
ومن عجائب الآية أن تقول عن الفساد أنه ظهر (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ولم تقل "في الأرض"، فمثلًا قد ظهر شؤم معاصي ثمود في برهم ومائهم أقول: وحتى في هوائهم، فأما البر فقد روى عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن أصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (متفق عليه، واللفظ لمسلم)، فحتى الأرض التي خطت عليها أقدامهم وشهدت ارتكاب المعاصي -والذنوب فساد وإفساد في الأرض- قد أصابها من شؤم فسادهم.
وأما الماء فقد أصابه أيضًا من فساد المعاصي، ففي لفظ للبخاري يقول ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لما نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها"، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، "فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء" (متفق عليه)، "وإنما أمرهم أن لا يشربوا من مائها خوفًا أن يورثهم قسوة أو شيئًا يضرهم" (عمدة القاري لبدر الدين العينى)، وكل هذا من فساد الذنوب والمعاصي.
وأما الهواء فلم ينج من فساد قوم ثمود، فقد جاء عند البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين"، قال الراوي: ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي (البخاري)، ومعنى: "قنع رأسه" أي: ستر رأسه ولفها بثوب، وبعده أسرع الخطى حتى يعبر ذلك الوادي، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يريد حتى أن يصيبه من هواء ذلك المكان الذي حل وظهر فيه شؤم الفساد والإفساد.
وما كان ذنب ثمود الأعظم؟ إنه كان الكفر بالله -والعياذ بالله-، والتمرد على نبيهم صالح -عليه السلام- وكذا تكون عاقبة كل من كفر وكل من تمرد.
***
وقد كان كفر ثمود كفرًا أكبر؛ كفر عقيدة، وهو أعظم الإفساد في الأرض، وللكفر نوع آخر هو كفر النعمة وهو كذلك فساد وإفساد وخراب وبوار ودمار، فإن الله -عز وجل- ينزل على العباد نعمه ويسبغها عليهم، فمنهم من يشكرها ومنهم من يكفرها فيصيبه الأشر والبطر، يقول الله -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28]، وهذا نموذج واقعي لعاقبة البطر وكفر النعمة يقصه علينا القرآن قائلًا: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، ولم يكن هذا هو حال هؤلاء وحدهم، بل هو حال أمم كثير أمثالهم: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58].
***
ثم أنواع الفساد والإفساد بعد ذلك كثيرة، فقطع الرحم التي أمر الله بها أن توصل إفساد في الأرض، قال عز من قائل: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22-23]، وعدم تزويج الفتاة من كفء جاءها إفساد في الأرض فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (ابن ماجه)، والرشوة فساد والمحاباة فساد والسرقة فساد... ومن الفساد ما هو عقدي وما هو اجتماعي وما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو إداري...
وقد حاول نبي الله شعيب -عليه السلام- أن ينبه قومه على جملة من ألوان الفساد والإفساد التي يرتكبونها فقال لهم: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 85-86].
ومما يلفت النظر في هذه الآية أن شعيبًا -عليه السلام- قد نهاهم عن الإفساد بعد الإصلاح قائلًا: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)؛ فإن أقبح وأشنع وأخطر ما يكون الإفساد إن حدث والخير قائم وثابت ومستقر، يقول ابن كثير مفسرًا: "ينهى -تعالى- عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد، فنهى الله -تعالى- عن ذلك" (تفسير ابن كثير)... فعند ذلك يتضاعف وزر المفسد الذي ساق غيره إلى الفساد وقد كانوا في عافية منه، ولطخهم بالأوزار والأدناس وقد كانوا منها بُرَآء.
ولعل هذا من أسباب تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتغليظه العقوبة حين قال: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه" (رواه مسلم).
***
وكما نهى الله -عز وجل- المفسدين عن إفسادهم ودعوتهم إلى الفساد، فإنه -عز وجل- قد نهى من حولهم عن طاعتهم في ذلك الفساد، فقال -عز وجل-: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء: 151-152]، فمن أطاع المفسدين فهو مثلهم في الدنيا وأيضًا في الآخرة حيث يندمون أشد الندم على طاعتهم إياهم: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 66-68]، ويتكرر نفس المشهد بعبارات أخرى: (...وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ...) [سبأ: 31-33].
***
وقد تحدث القرآن عن الفساد كما تحدث عن الإفساد، وأخبرنا أن الجميع يفر من تهمة الإفساد ويتبرأ منها ويعد نفسه من المصلحين، يقول -تعالى- عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11-12]، ولكن الأمر في التعرف على المفسدين سهل ميسور؛ فمن وافق أمره ونهيه ورغباته ودعواته شرع الله -تعالى- فهو المحسن الصالح المصلح، أما من خالف شريعة الله وحاد وجار فذلك هو المفسد.
***
ولا تحسبن أني قد قلت شيئًا مما مضى من عند نفسي، كلا؛ بل استقيته من علمائنا وخطبائنا ودعاتنا، ومنهم هؤلاء الخطباء الذين قد نقلت هنا بعض خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم