اقتباس
كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظون على صلاة الجماعة ويحذرون من التخلف عنها، بل كانوا يعدون المتخلفين عنها من المنافقين؛ يقول ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "مَن سَرَّه أن يَلْقى الله غدًا مُسلِمًا؛ فلْيُحافظ على هؤلاء الصَّلواتِ حيثُ يُنادَى بهن؛ فإنَّ الله تعالى شرع لنبيِّكم سننَ...
طاعة تنير الدروب وتصفو بها القلوب وتمحى بالمداومة عليها الذنوب وتزول بإتقانها الكروب وينال أهلها مرضاة علام الغيوب؛ وردت في عظيم شأنها نصوص صريحة وصحيحة؛ إنها صلاة الجماعة مع المسلمين؛ حيث أمر الله عباده في كتابه الكريم؛ فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]؛ يقول العلامة السعدي -رحمه الله- في تفسيره: أي، "صلوا مع المصلين؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله؛ فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة، وبين الإخلاص للمعبود، والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية البدنية".
أيها المسلمون: إن صلاة الجماعة من شعائر الإسلام العظام ومبانيه الجسام، وقد أجمع علماء المسلمين على أنها من آكد الطاعات وأعظم القُربات لله -تعالى-، وإن بشهودها تزول الضغائن والخلافات والخصومات والعداوات؛ حيث أن بلزومها تزكو النفوس وتسمو بها الأرواح وتحصل معها السعاد والانشراح والاهتداء والصلاح والفوز في الدارين والفلاح.
وقد يتساءل متسائل عن مشروعية صلاة الجماعة والحِكمة منها؟
والجواب: أن حكمة الله بالغة في كل شيء؛ فما من شيء خلقه أو حكم شرعه أو توجيه حث عليه؛ إلا وله حكم ومنافع كبيرة للعبادة في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وقد تخفى هذه الحكم والأسرار عليهم أو بعضها، لكن حسب صلاة الجماعة ما تجدده من علاقة بين العبد ومعبوده -عز وجل- وما تحققه من ائتلاف بين المسلمين، وقد ثبت عن النبي الكريم مداومته عليها، بل وتأكيده على لزومها وتحذيره من تضييعها والتهاون في شهودها، ثم صحابته من بعده ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم.
أيها المؤمنون: وصلاة الجماعة فرض على الرجال؛ إلا من عذر، كمرض أو سفر أو مطر؛ حيث أمر الله بذلك؛ فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]، وفرضية إقامتها في حال الأمان والخوف وجوباً عينيًّا، قال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) [النساء: 102]؛ فإذا وجبت على المجاهد فهي في حق غيره أوجب، وما هو عذر من هو في حال السلم والأمن.
وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد ذلك في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "إِنَّ أَثْقَلَ الصَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ".
فحديث الرسول الكريم دل على وجوب صلاة الجماعة من ناحيتين:
الأولى: أنه وصف من تخلف عن الجماعة بالنفاق، والمتخلف عن السُّنة لا يعتبر منافقاً؛ فالمنافق هو الذي تخلف عن أمر واجب.
الثانية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقد العزم على عقابهم بسبب تخلفهم عن الجماعة؛ وكما هو معلومٌ؛ فالعِقاب يكون على من ترك الواجب، ولولا وجود الأطفال والنساء في البيوت لنفذ العقوبة بحقهم حُكم التخلف عن صلاة الجماعة.
عباد الله: ومن تخلف عن صلاة الجماعة وصلى منفرداً؛ فله حالتان:
الحالة الأولى: من تخلف عن الجماعة لعذرٍ كمرضٍ أو سفرٍ أو غيره بحيث لا يكون من عادته ترك الجماعة؛ فيُكتب له أجره كاملاً كما لو أنّه صلّى في جماعةٍ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مَرِض العبد أو سافر؛ كُتِب له ما كان يعمل صحيحاً مُقيماً".
الحالة الثانية: التخلُّف عن الجماعة لغير عذرٍ؛ فصلاته منفرداً صحيحةٌ لكنّه يخسر أجر صلاة الجماعة والتي هي أفضل من صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجةً، وكذلك يخسر أجر الخطوات التي يخطو بها إلى المسجد وغير ذلك من العطايا.
وقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظون على صلاة الجماعة ويحذرون من التخلف عنها، بل كانوا يعدون المتخلفين عنها من المنافقين، يقول ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "مَن سَرَّه أن يَلْقى الله غدًا مُسلِمًا؛ فلْيُحافظ على هؤلاء الصَّلواتِ حيثُ يُنادَى بهن؛ فإنَّ الله تعالى شرع لنبيِّكم سننَ الهدى، وإنَّهن من سُنن الهدى، ولو أنَّكم صليتم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا المتخلف في بيته -يعني المتخلف عن الجماعة-، لترَكْتم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيكم لضَللتم، وما من رجل يتطهَّر؛ فيُحسِن الطُّهور، ثم يَعْمَدُ إلى مسجدٍ من هذه المساجد، إلاَّ كتب الله له بكلِّ خطوةٍ يَخْطوها حسَنة، ويرفعه بها درَجة، وَيَحُطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها -يعني عن الصلاة في المسجد- إلاَّ منافق معلومٌ النِّفاق، ولقد كان الرَّجل يُؤتَى به يُهاَدى بين الرجلين -يعني يُمسكه رَجُلان من جانبَيْه يعتمد عليهما- حتَّى يُقام في الصَّف".
عباد الله: لم تحظ صلاة الجماعة بهذه العناية الرفيعة، إلا لعظيم فضلها وكرم عطائها، وسنذكر بعضا من ثمارها وفضائلها، كما يلي:
البراءة من النفاق والمنافقين، قال صلى الله عليه وسلم-: "من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق" (حسنه الألباني).
ومنها: أن أجر من خرج إليها كأجر الحاج المحرم: لحديث أبي أمامة -رضى الله عنه- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم" (رواه أحمد).
ومن الفضائل: أنها تفضل عن صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ويضاعف الله لمن يشاء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (رواه البخاري)، وجاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- خمسا وعشرين درجة، وقد جمع العلماء بين الحديثين من ثلاثة أوجه، كما ذكر ذلك النووي -رحمه الله-؛ فقال:
أحدها: أنه لا منافاة؛ فذكر القليل لا ينفي الكثير, ومفهوم العدد باطل عند الأصوليين، والثاني: أن يكون أخبر أولاً بالقليل ثم أعلمه الله -تعالى- بزيادة الفضل فأخبر بها، والثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة, وتكون لبعضهم خمس وعشرون, ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة ومحافظته على هيئاتها وخشوعها وكثرة جماعتها وفضلهم وشرف البقعة ونحو ذلك".
ومن فضائل صلاة الجماعة وثمارها: أن صاحبها في ذمة الله؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح؛ فهو في ذمة الله؛ فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فيدركه, فيكبه في نار جهنم"؛ قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "الذِّمَّة هنا: الضمان، وقيل الأمان".
ومن فضائلها: مغفرة الذنوب والسيئات وتكفير الخطايا والزلات، وقد روي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، "أن توضأ يوما وضوءا حسنا ثم قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ؛ فأحسن الوضوء ثم قال من توضأ هكذا ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه، إلا الصلاة غفر له ما خلا من ذنبه" (رواه مسلم).
ومن فضائلها: أن الله -تعالى- يكتب لمن شهدها أجر قيام نصف ليلة في شهود صلاة العشاء ، ورتب أجر قيام ليلة كاملة لحضور صلاة الفجر جماعة، كما جاء في حديث عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ؛ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ" (رواه مسلم).
ومن الفضائل كذلك: أن الله وعد المداومين على الصلاة في الجماعة بالمنازل الرفيعة في الجنة، وقد جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غدا إلى المسجد أو راح، أعدَّ الله له في الجنة نُزلاً كلما غدا أو راح" (متفق عليه).
ومنها: حصول أهلها على النور التام يوم القيامة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني).
فيا سعادة من حافظ عليها وأقامها بمحبة لفعلها وإخلاص لمن يستحقها، ولله در القائل:
أحب الصلاة وأشتاقها****وتسمو بروحي آفاقها
خشوعي لربي لا لسواه****فلست أسير بغير هداه
ويخشع غيري لعبد ضعيف****ويعبد غيري ضلالا هواه
فاتقوا الله -عباد الله- وأقيموا صلاتكم حيث أمركم بها ربكم ونبيكم، ولا تغرنكم الدنيا ومتاعها عن هذه الشعيرة العظيمة التي بها سعادتكم وفلاحكم في دنياكم وآخرتكم، وإن القلب ليحزن حين يرى واقع كثير من المسلمين اليوم يسمعون النداء وهم في مشاغلهم الدنيوية ولا يجيبون نداء الفلاح وصوت الفوز والنجاح، ويتخلفون عن إقامتها في بيوت الله التي اصطفى الله لها رجال، كما قال -سبحانه وتعالى- عنهم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36-37].
خطباؤنا الكرام: لا يخفاكم قدر هذه الشعيرة وعظيم فضلها في الدنيا والآخرة، كما لا يخفى عليكم آثار التفريط في شهودها مع جماعة المسلمين، وفي هذه المقدمة حاولنا أن نستلهم بعضا من ذلك مرفقين معها عددا من الخطب المختارة لبعض المشايخ الفضلاء...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم