اقتباس
ولا تقتصر الصدقة على دفع المال إلى الفقير فقط، بل إن مفهوم الصدقة أوسع من ذلك وأرحب، فما تنفقه على أسرتك صدقة؛ فعن أبي مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة...
لو كان جميع الناس أغنياء ما شرع الله -تعالى- الزكاة ولا الصدقات، لكن مشروعية الزكاة والصدقات دليل مبين على وجود العوز والفاقة والحاجة بين الناس جنبًا إلى جنب مع وجود الأغنياء والموسرين: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)[الزخرف: 32].
ولأن الأموال ليست في الحقيقة ملكًا لهم فقد أمرهم الله بالإنفاق منها: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[الحديد: 7]، وجعل في هذه الأموال التي في حوزتهم حقين للمحتاجين، أحدهما معلوم محدد وهو الزكاة: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24]، والثاني مطلق للاختيار والتقدير الفردي وهو الصدقات: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الذاريات: 29].
إذن: فما يخرجه الغني الموسر من زكوات وصدقات ليس تفضلًا ولا منةً منه على من يعطيهم؛ بل هو يعطي من مال الله، إلى عباد الله، حقًا كتبه لهم الله.
***
ومن الصدقات ما يكون في السر ومنها ما يكون في العلانية: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)[البقرة: 271]، فصدقة السر خير وأفضل من صدقة العلانية، ومن السبعة الذين يظلهم الله -تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"(متفق عليه)، وفي الحديث: "وصدقة السر تطفئ غضب الرب"(رواه الطبراني).
وهناك نوع من صدقة السر هو أعلاها وأدقها وأفضلها، ولقد أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله"(رواه مسلم)، وفي لفظ لابن ماجه: "من أحب أن يظله الله في ظله، فلينظر معسرًا أو ليضع عنه"، فهو أيضًا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة.
وقد يقع من أحدهم ما يوجب دية في رقبته، لكنه كذلك معسر لا يجد ما يوفي به تلك الدية، فهذا تحل الصدقة عليه حتى يدفع الدية لأوليائها، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه لله- فقيل له: هل يجوز أن يُعطى من الزكاة من عليه دية؟ فكان جوابه: "إن كانت الدية عليه وهو فقير فنعم، وإن كان غنيًا فلا، وإن كانت على عاقلته وهم فقراء: فنعم، وإن كانوا أغنياء فلا".
***
ولا تقتصر الصدقة على دفع المال إلى الفقير فقط، بل إن مفهوم الصدقة أوسع من ذلك وأرحب، فما تنفقه على أسرتك صدقة؛ فعن أبي مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة"(متفق عليه).
وكل ما يؤكل مما تزرعه له به صدقة؛ فعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"(متفق عليه).
وذِكْرُ الله -تعالى- من الصدقات، والنطفة يضعها في حلال من الصدقات؛ فعن أبي ذر أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"(رواه مسلم).
وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مجموعة أخرى من الصدقات، نقلها ابن عمر قائلًا: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله , أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله -تعالى- أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا... ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام"(رواه الطبراني في الكبير والأوسط).
***
ولو حاولنا أن نقدم الآن نماذج من المنفقين والمتصدقين لضاق بنا المقام، ولعل أشهر نماذج البذل والعطاء والصدقة هو ما حكاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟"، قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ما عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟"، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا(رواه أبو داود).
ويروي أنس بن مالك فيقول: أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فمره يعطيني أقيم بها حائطي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطه إياها بنخلة في الجنة"، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي وقد أعطيتكها، فاجعلها له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كم من عذق دواح لأبي الدحداح في الجنة" مرارًا، فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح السعر(رواه ابن حبان).
وأترككم الآن مع هذه الخطب المنتقاة حول التصدق والإنفاق، نفعكم الله بها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم