اقتباس
ودعونا نقرر -رحمنا الله وإياكم- أنه لا يلجأ إلى الانتحار إلا ضعيف خائر هارب من المواجهة، لا يلجأ إليه إلا من ضَعُف إيمانه وخارت قواه وعجز عن الصبر والتصبر... والمنتحر ما صدَّق بوعد الله -تعالى- حين قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، ولا آمن...
إن كانت روحك مِلكًا لك فأزهقها كما شئت! إن كنت أنت من خلقت نفسك فافعل بها ما أردت! إن كنت أنت من سويت جسدك فأتلفه متى شئت وأنى شئت!... لكنك أبدًا لا تملك في جسدك ولا في نفسك مثقال ذرة، بل جسمك ونفسك وروحك وجوارحك وعقلك وقلبك كلها إنما هي هبة لك من ربك، لا يملكها إلا هو، ولا يسيطر عليها ويقدر لها إلا هو -سبحانه وتعالى-. إن أردت الانتحار وقتل نفسك بادعاء أنها لك وبك، إذن فتحكَّم في أنفاسك فلا تتنفس! أو تحكَّم في دقات قلبك فأمره ألا ينبض، أو سيطر على حركة أمعائك فأمرها إلا تتحرك...!
لكن الواقع أننا كلنا جميعًا عبيد لله -عز وجل-، لا نملك من أمرنا شيئًا، خُلقنا لما أرادنا الله أن نُخلق، وسنموت حين يريدنا الله أن نموت؛ فقد كُتبت آجالنا ونحن في بطون أمهاتنا، فعن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد..."(متفق عليه)، ولن نموت إلا في الآجل الذي كتبه لنا الله -عز وجل-: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، فيا من تفكر في الانتحار رويدك فإن لك أجلًا لن تعدوه فدعه يجيئك وأنت محسن مقبل على ربك، وليس وأنت جازع ساخط ناقم!
ودعونا نقرر -رحمنا الله وإياكم- أنه لا يلجأ إلى الانتحار إلا ضعيف خائر هارب من المواجهة، لا يلجأ إليه إلا من ضَعُف إيمانه وخارت قواه وعجز عن الصبر والتصبر... فإنه لا ينتحر إلا عاجز ضعيف الإيمان، وقد أمرنا الله -عز وجل- بالصبر والتصبر على المصائب والبلايا: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155-157]، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر"(متفق عليه).
إن المنتحر ما صدَّق بوعد الله -تعالى- حين قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 5-6]، ولا آمن بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- حين قرر قائلًا: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا"(الحاكم، وصححه الألباني). ولو فَقِه من أراد الانتحار وفهم وأدرك ووعى أن الله حينما ابتلاه ما أراد به إلا الخير لما انتحر، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"(الترمذي، وصححه الألباني)، فيا ليتهم يفقهون!
وإن لهذه الجريمة؛ جريمة الانتحار شؤم على صاحبها يوم القيامة، ومن ذلك: - أن الانتحار علامة على سوء الخاتمة -والعياذ بالله-: فإنه من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة، فعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات على شيء بعثه الله عليه"(أحمد، وصححه الألباني)؛ فمن مات على طاعة بعث عليها ومن مات على معصية بُعِث عليها أيضًا -نعوذ بالله-، وممن ماتوا على طاعة وسيبعثون عليها يوم القيامة: ذلك الرجل الذي حج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، يروي ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوقصته ناقته وهو محرم، فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"(متفق عليه).
أما المنتحر فقد خُتم له بشر وسوء -نعوذ بالله- لذلك فإنه يبعث يوم القيامة وهو يصيب نفسه بما قتل به نفسه في الدنيا -كما سيأتي إن شاء الله-.
ومن هؤلاء رجل آخر قصَّ علينا سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قصته قائلًا: التقى رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل، لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟" قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"(متفق عليه).
ومنها: أن المنتحر يُعذَب بما انتحر به في نار جهنم: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا"(متفق عليه).
ومنها: أن المنتحر عليه غضب الله وسخطه: فالمنتحر -في أغلب الأحوال- جازع ساخط على قضاء الله وقدره، وهذا أنس بن مالك يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- أنه قال: "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"(ابن ماجه، وحسنه الألباني)...
فيا عباد الله: أطيعوا أمر الرحمن الرحيم -عز وجل- حين أمر قائلًا -عز من قائل-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 29-30]
وبعد أن قررنا بعض عقوبات المنتحر، فهناك سؤال يطرح نفسه بشدة: هل المنتحر كافر كما يتناقل ذلك كثير من الناس؟ والجواب: ما دام المنتحر كان يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلـم- رسول الله، فليس بكافر أبدًا، بل هو مسلم وإن خُتم له بسوء الخاتمة -والعياذ بالله-، يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "فالانتحار من أقبح الكبائر، لكن عند أهل السنة والجماعة لا يكون كافرًا إذا كان مسلمًا يصلي معروفًا بالإسلام موحدًا لله عز وجل مؤمنًا به -سبحانه- وبما أخبر به، ولكنه انتحر لأسباب إما مرض شديد وإما جراحات شديدة وإما أشباه ذلك من الأعذار، فهذا الانتحار منكر وكبيرة من كبائر الذنوب ولكنه لا يخرج به من الإسلام، إذا كان مسلمًا قبل ذلك لا يخرج بالانتحار من الإسلام بل يكون تحت مشيئة الله -سبحانه وتعالى- كسائر المعاصي، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة بإسلامه وتوحيده وإيمانه، وإن شاء ربنا عذبه في النار على قدر الجريمة التي مات عليها وهي جريمة القتل، ثم بعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار إلى الجنة، فينبغي لوالدته أن تدعو له كثيرًا وأن ترحم عليه كثيرًا، وتصدق عنه كثيرًا لعل الله يلطف به ولعل الله يرحمه إذا كان مسلمًا".
أقول: وكل ما جاء مناقضًا لذلك؛ ككون المنتحر كافر أو كونه مخلدًا في النار... فإنه مؤول مردود عليه، فمن ذلك حديث جندب بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة"(البخاري)، فإن الحديث حكاية عن أمة من الأمم من غيرنا، وهو من "شرع من قبلنا"، وقد جاءت الأدلة بمخالفته وعدم اعتباره في شرعنا. وأما حديث جابر بن سمرة حين قال: "أتي النبي -صلى الله عليه وسـلم- برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه"(مسلم)، فقد قال النووي: "وفي هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي.
وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصل عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة في أول الأمر على من عليه دين؛ زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا على صاحبكم""(شرح صحيح مسلم للنووي).
وفيما يلي نخبة من خطبة الخطباء، تبين حقيقة الأمر وتؤصل له، وتفصِّل ما أجملنا في هذه العجالة، فإليكم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم