اقتباس
والمؤمن لا يخرج من رمضان لاهيًا عابثًا غافلًا، بل يخرج منه يقظًا منتبهًا متشمرًا واعيًا.. المؤمن لا يخرج من رمضان وقد ملَّ وكَلَّ وضجر، بل يخرج منه وما زال قلبه معلَّق به ومتحسر عليه، يخرج المؤمن من رمضان حاملًا هَمَّ القبول؛ متسائلًا: تُرى هل قبِل الله مني طاعاتي أم ردها عليَّ...
أيها الأيام: ألا تتمهلين؟ لقد أخذت منا كل غال وعزيز، لقد جعلتِ شابنا هرمًا كبيرًا! لقد صيَّرت جميلتنا دميمة عجوزًا! لقد حوَّلتِ بيوتنا من بعد الجِدة قديمة متهالكة!... وها أنت أيها الأيام تكرين، ومن بين أيدينا تفرين، ومن أصابعنا تتفلتين، حتى طويت شهرنا الكريم؛ شهر رمضان في طياتك، طويتيه وما قضينا منه وطرًا ولا ارتوت منه جوانحنا، طويته وما زالنا مشتاقين إليه ومتلهفين عليه..
وكأني بالأيام تجيبنا: هكذا خلقني الله، وهذا طبعي وتلك عادتي وسيظل هكذا إلى يوم القيامة ديدني؛ لا أُبقي على غال، ولا أصون لسعيد سعادته، ولا أديم على تعيس تعاسته، أُغيِّر وأُبدِّل وأرفع وأخفض وأُهلِك وأدمر وأُفني وأطوي.. ويومًا ما سأطويكم كما طويت من قبلكم وكما سأطوي من بعدكم.. فإنما أنا مأمورة؛ أنفذ أوامر الله، فالحصيف من اتعظ بمروري، والمغرور من سدر في غفلته فلم ينتبه لي وأنا أعدو به إلى قبره.
***
أحبابنا: لقد مر رمضان، وكنا نعلم أنه سيمر، وانتهت أيامه وكنا ندرك أنها لا محالة ستنتهي.. ولكن الله الواحد الأحد هو الأول وهو الآخر: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص: 88]، فالأيام تفنى وتهلك ويبقى الله وحده لا شريك له: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27].
فرمضان مرَّ، وقد لا يعود، أما الجليل الكريم العظيم فهو -سبحانه- الباقي وحده والدائم وحده، فإن كنت تعبد الله فدُمْ على عبادتك، فإنه -تعالى- لا يفنى ولا يموت: (الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)[الفرقان: 58]، ولقد قال -سبحانه- لنبيه -صلى الله عليه وسلـم- ولنا من بعده: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، وصدق من قال: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل".
فليس الصيام مقصورًا على رمضان، بل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- "يصوم حتى نقول: لا يفطر"(متفق عليه)، وكان -صلى الله عليه وسلـم- يصوم الاثنين والخميس طوال العام، ويصوم ثلاثة من كل شهر.. ونصح -صلى الله عليه وسلـم- عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قائلًا: "فصم صيام داود -عليه السلام-"، قال: وكيف؟ قال: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا"(متفق عليه).
ولقد حضنا وحثنا -صلى الله عليه وسلـم- على صيام ست من شوال فقال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر"(مسلم).
وليس قيام الليل -كذلك- مختصًا بليالي رمضان وحدها، بل تروي أم المؤمنين عائشة فتقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: "يا عائشة أفلا أكون عبدًا شكورًا"(متفق عليه).
وقل مثل ذلك في الجود والإنفاق في سبيل اللهن وفي جميع أعمال الخير والبر، فحافظ على ما اعتدت عليه في رمضان ولا تنقطع فتنقطع عنك الأجور والحسنات، ولم يكن هذا أبدًا هدي النبي -صلى الله عليه وسلـم-، بل "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- إذا عمل عملًا أثبته"(مسلم)، و"كان عمله ديمة..."(متفق عليه)، و"كان أحب العمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- الذي يدوم عليه صاحبه"(متفق عليه)، وكذلك أحب الأعمال إلى الله -تعالى- "أدومها وإن قل"(متفق عليه).
ولقد عتب -صلى الله عليه وسلـم- على رجل أن انقطع عن قيام الليل بعد أن اعتاده، وحذَّر عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن يفعل مثله قائلًا: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"(متفق عليه).
***
والمؤمن لا يخرج من رمضان لاهيًا عابثًا غافلًا، بل يخرج منه يقظًا منتبهًا متشمرًا واعيًا.. المؤمن لا يخرج من رمضان وقد ملَّ وكَلَّ وضجر، بل يخرج منه وما زال قلبه معلَّق به ومتحسر عليه، يخرج المؤمن من رمضان حاملًا هَمَّ القبول؛ متسائلًا: تُرى هل قبِل الله مني طاعاتي أم ردها عليَّ؟ فهو على خوف ووجل وعلى رجاء وطمع، هذا حال المؤمنين فلما قرأت أم المؤمنين عائشة قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]، سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61]"(رواه الترمذي).
وقد قرر العلماء أن "الخوف من عدم القبول، علامة من علامات القبول"، وكذا كان حال سلفنا الصالح -رضي الله عنهم-؛ "كانوا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"(لطائف المعارف، لابن رجب)، فالله -تعالى- نسأل أن يتقبل منا رمضان الذي مضى، وأن يبلغنا رمضان الذي يأتي، إنه الكريم الجواد، وهو على كل شيء قدير
***
وقد نظمنا ها هنا كوكبة من الخطب لخيرة خطبائنا توضح كيف ينبغي أن يكون حالنا بعد رمضان، وتبين كيف كان السلف يخرجون من رمضان خيرًا مما دخلوه فيه، وأدعها الآن بين يديك:
التعليقات