اقتباس
ولو تابت الأمة إلى ربها لكشف الله -تعالى- عنها الضعف والاستضعاف وتكالب الأمم عليها.. ولو تابت الأمة إلى ربها لكشف الله عنها البلاء والغلاء، ولعم أرضها النماء والرخاء.. ولو تابت الأمة إلى ربها لرفعت من القلوب الضغائن والأحقاد، ولتنزل عليها الإخاء والوداد.. ولو تابت الأمة إلى ربها لدلَّها على طريق مجدها وعزها ورفعتها وسؤددها...
يولد كل إنسان مرة، ولكن المسلم يولد مرات ومرات؛ فالإنسان يولد على الفطرة السوية النقية، ويظل على فطرته ما دام لم يرتكب الذنوب، فإذا أذنب تلوثت تلك الفطرة وتلطخت، وكلما ازدادت ذنوبه ازداد سواد قلبه، حتى يموت ذلك القلب!
وهذا ينطبق على كل إنسان إلا المسلم؛ فإنه كلما أذنب تاب وأناب وندم وأقلع وبكى وأصلح واستغفر... فتُمحى عنه ذنوبه وخطاياه، ويصقل قلبه، وتُغسل عنه أقذاره وأدرانه، حتى يعود طاهرًا نقيًا، كفطرته التي وُلد عليها، فكأنما وُلد من جديد، أوما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
***
والعجيب الغريب أن يأتي أقوام فيسألونك: ولماذا نتوب؟!
وقل لهم: نتوب لأن الذنوب جلابة الكروب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، وما من أمة هلكت إلا بسبب ذنوبها: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40]، يقول أبي بن كعب: "إن المؤمن لا يصيبه مصيبة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر"(شعب الإيمان، للبيهقي).
ولا دواء للذنوب إلا التوبة، ولا انفراج للكروب إلا بالتوبة، ولا وقاية من العذاب إلا بالتوبة، ولا كشف للغمة إلا بالتوبة، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة"(الداء والدواء، لابن القيم).
فنتوب لأن التوبة سبب لجلب النعم ودفع النقم: قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: ١٠-١٢]، وقال -عز من قائل-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: ٩6].
ونتوب لأن الله -تعالى- أمرنا أن نتوب: فقال -عز وجل-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31]، ووصف الله -تعالى- أنبياءه ورسله بأنهم منيبين أوابين توابين، فقال -عز وجل- عن داود -عليه السلام-: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)[ص: 24]، وقال عن أيوب -عليه السلام-: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44]..
ونتوب لأن التوبة واجبة علينا، وليست تفضلًا منا، فقد طلبها الله -تعالى- طلبًا جازمًا وأمرنا بها أمرًا مباشرًا فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التحريم: ٨]، وليست واجبة على التراخي، بل هي واجبة على الفور، وليست للعصاة وحدهم؛ بل للمؤمنين الأتقياء الصالحين أيضًا؛ فها هو سيد الخلق المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة"(رواه مسلم).
***
فأقدم الآن تائبًا على رب تواب كريم، أقدم ولا تخف فباب التوبة مفتوح ما دام في الجسد روح، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني"(رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني).
أقبل فإن يفرح بالتائب إذا تاب: فعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته، تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب، وعليها له طعام وشراب، فطلبها حتى شق عليه، ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها، فوجدها متعلقة به؟" قلنا: شديدًا، يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده، من الرجل براحلته"(رواه مسلم).
أقبل فإن الله -تعالى- يستقبلك وينتظرك ويبسط يده إليك: فعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"(مسلم).
أقبل مهما كانت كثرة ذنوبك وفداحة جنايتك وعظيم خطيئتك؛ فإنه لا يعظم على عفو الله شيء: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: ١٥٦]، ويقول -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: ٥٣].
أقبل، فلو لم تخطئ لأتى الله -تعالى- بمن يخطئ؛ ليتوب عليه، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم"(رواه مسلم).
***
فلو تابت الأمة إلى ربها لكشف الله -تعالى- عنها الضعف والاستضعاف وتكالب الأمم عليها.. ولو تابت الأمة إلى ربها لعادت قائدة الأمم ورائدتها، ولعادت أعظم الحضارات.. ولو تابت الأمة إلى ربها لكشف الله عنها البلاء والغلاء، ولعم أرضها النماء والرخاء.. ولو تابت الأمة إلى ربها لرفعت من القلوب الضغائن والأحقاد، ولتنزل عليها الإخاء والوداد.. ولو تابت الأمة إلى ربها لدلَّها على طريق مجدها وعزها ورفعتها وسؤددها..
ولقد اتفقت كلمة الدعاة والخطباء على أن الواجب الفوري الأول على كل إنسان: أن يتوب إلى الله.. وأجمعوا أنه لا طريق ولا سبيل لرفع الغمة وكشف الكربة إلا بالتوبة والاستقامة والإنابة، وهذي بعض خطبهم:
التعليقات
زائر
07-01-2021كل الروابط لا تعمل
الإدارة العامة - ملتقى الخطباء
11-01-2021سيتم حل المشكلة.. نشكرك على تواصلك