اقتباس
لذا لم يكن معيار الرجولة عند سلفنا الصالحين ومصلحينا وأصحاب البصيرة النافذة لم يكن السن أو الحجم، وإنما كان ما وقر في الفؤاد من معاني الغيرة على الدين والبذل له؛ فكم من صبي كان رجلاً في قلبه ولسانه، وكم من صغير حيّر عقول الكبار بفهمه الدقيق وبذله العميق، وكم من ضئيل الحجم وَزَنَ بقوة قلبه وسعه علمه وعقله ملء الأرض من أصحاب الأحجام، وكم ممن يبهر الناس بحسن منظره ..
يخلط كثيرون بين مفهومي الذكورة والرجولة، فيعتقدون أن الأولى معبرة عن الآخرة، وهذا خلط واضح في كلا المفهومين؛ فالذكورة هي فقط ضد الأنوثة، وهي اللفظة التي تبين جنس الإنسان دون التعرض لما يعتنقه من مبادئ أو أخلاق أو قيم، أما الرجولة فشيء مختلف تمامًا، حيث تتجلى فيها أخلاقيات ومبادئ الشخص ومدى استعداده لتحمل المسؤوليات المختلفة ومدى التزامه بشريعة الله -عز وجل- والتضحية والبذل من أجلها وفي سبيلها.
لذلك وبسبب هذا الخلط الواضح بتنا نرى أشباه رجال يوصفون بالبطولة والرجولة وهم على العكس من ذلك، إلا أن القيم التي في النفوس نفسها قد تزعزعت وحلت بدلاً منها قيم أخرى تدعم سلوكيات شائنة، وصارت البطولة والرجولة مسخًا مشوهًا، تطلق على من ليس لها بأهل، في حين تُزال معاني الرجولة الحق من رجال بلغوا الجوزاء حرصًا على أوطانهم ودينهم، وضحوا في سبيلهما بكل غالٍ ورخيص، فيوصفون بالتشدد تارة وبعدم المسؤولية تارة وبالإرهاب والتزمت تارة أخرى، وما هذا إلا لاختلال المفاهيم لدى الناس، وزرع وسائل الإعلام والفضائيات لمفاهيم منحلَّة تقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا.
وعندما نتأمل الرجولة في النصوص الشرعية نجدها لصيقة الصلة بالمسؤولية والتضحية والفداء، وذلك لما بينهما من صلة وثيقة، ولصيقة الصلة كذلك باتباع أمر الله وأمر رسوله وتقديمه على محببات النفس ونوازعها الداخلية من تجارة وأموال وغيره، بل ونفيها عمن فرط في اتباع الشريعة أو تعدى حدود الله عز وجل، لذا كان هذا هو المعيار الحقيقي للرجولة في نظر الشريعة؛ يقول الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 36، 37]، وقال (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]، وقال: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [النساء: 34]، وقال: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس: 20]، وقال: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ) [القصص: 20].
فالآيات ألزمت من يبتغي الاتصاف بالرجولة بصفات تبني فيه شخصيته بالإقدام والإقبال على الطاعة ومعرفة حق الله تعالى وحق رسوله والإحجام عن معصيته وما قد يهدم مروءته وأخلاقه ومبادئه من جانب، ومعرفة حق أمته وعظم المسؤولية الملقاة على كاهله والتصرف إزاءها بنوع من السؤولية والكفاءة والتضحية من جانب آخر.
لذا لم يكن معيار الرجولة عند سلفنا الصالحين ومصلحينا وأصحاب البصيرة النافذة لم يكن السن أو الحجم، وإنما كان ما وقر في الفؤاد من معاني الغيرة على الدين والبذل له، فكم من صبي كان رجلاً في قلبه ولسانه، وكم من صغير حيّر عقول الكبار بفهمه الدقيق وبذله العميق، وكم من ضئيل الحجم وَزَنَ بقوة قلبه وسعه علمه وعقله ملء الأرض من أصحاب الأحجام، وكم ممن يبهر الناس بحسن منظره وقوة جسده وعلو مقامه وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة:
أعيذها نظرات منك صادقة *** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
فكان اهتمام أصحاب البصيرة النافذة بالجوهر لا بالمظهر، وبالكيف لا بالكم، وبتربية العقول والأفهام قبل تربية البطون والأجسام، لما طلب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في فتح مصر كتب إليه: "أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
ومع هذا الحث الدائم والمستمر على التحلي بصفات الرجولة ونبذ صفات التخنث التي لا تزيد صاحبها إلا بعدًا من الفضيلة والمروءة والشهامة، إلا أن الرجال الحقيقيين في الدنيا قليل، حتى أصبح وجودهم أمنية تمناها الصالحون وحاملو قضية نصرة الدين على أكتافهم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تمنى وجودها حينما قال لأصحابه يومًا: تمنوا؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر: "ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله".
فهكذا يفكر الرجال، ولمثل هذا يتطلع الرجال، يتطلعون إلى ملاقاة رجال من أمثالهم يفتحون بهم الدنيا وينشرون بهم دين الله عز وجل، وينشرون بهم القيم والأخلاق والمبادئ بين الناس، ولقد أعياهم هذا الطلب، وأضنتهم رحلة البحث، فالناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، وليست مهمة البحث عن رجل مهمة سهلة، بل إنها شاقة شقاء استخراج اللؤلؤ من قاع البحار بل أشد، وشاقة شقاء زرع النباتات الاستوائية في أعماق الصحراء، وشاقة شقاء حرث البحر أو زرع الهواء، وقد يقضي المصلح عمره كله في رحلة البحث عن رجال، فقد يجد واحدًا يعينه على غايته وقد لا يجد، وكما قال الشاعر:
مازلت أبحث في وجوه الناس عن بعض الرجال
عن عصبة يقفون في الأزمات كالشم الجبال
فإذا تكلمت الشفاه سمعت ميزان المقال
وإذا تحركت الرجال رأيت أفعال الرجال
أما إذا سكتوا فأنظار لها وقع النبال
يسعون جهدًا للعلا بل دائمًا نحو الكمال
يصلون للغايات لو كانت على بعد المحال
ويحققون مفاخرًا كانت خيالاً في خيال
يتعشقون الموت في أوساط ساحات القتال
ويرون أن الحر عبد إن توجه للضلال
من لي بفرد منهم ثقة ومحمود الخصال
من لي به يا قوم إن هموم وجداني ثقال
سيطول بحثي إن سؤلي نادر صعب المآل
فمن الذي تحوي معًا أوصافه هذي الخصال
لكن عذري أن في الدنيا قليلاً من رجال
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع آثرنا الحديث عن الرجولة ومعانيها وسبل تحقيقها، في مجموعة من الخطب العذبة الرقراقة، التي نأمل من خلالها أن يركز خطباؤنا وأئمتنا وعلماؤنا ومصلحونا على تربية روح الرجولة في نفوس الطلاب والملتزمين بدين الله عز وجل، وذلك لما لها من أثر كبير في تصحيح مسار الدعوة إلى الله تعالى وترشيد الكثير من سلوكيات الدعاة إلى الله تعالى، سائلين الله تعالى أن يرزقنا الأخلاق الصالحة وأن نكون حريين بالاتصاف بالرجولة والمسؤولية في أداء الأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم