اقتباس
وإن أفتيته بغير علم فقد صرت شريكًا له في إثمه، بل لربما نجا هو من الإثم، وحملتَه أنت كله وحدك؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه"، وفي لفظ: "من أفتي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه"...
لم يخلق الله -عز وجل- الناس كلهم علماء؛ بل منهم العالم ومنهم الجاهل... وقد جعل الله -عز وجل- على العالم واجبًا، على الجاهل واجبًا آخر، فأما واجب العلماء فيبذلوا علمهم للناس ولا يمنعوهم إياه خاصة إذا سئلوا عنه؛ فقال -عز من قائل-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران: 187]، ويروي أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وأما واجب الجهلاء فأن يسألوا عما لا يعلموا؛ فإن السؤال مفتاح العلم، وإن شفاء العي السؤال؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا! فإنما شفاء العي السؤال"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
ونزل قول الله -عز وجل-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43]؛ فمن لا يعلم يتحتم عليه أن يسأل من يعلم.
بل هذا سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه، تخفى عليه أشياء ولا يعلمها، فيسأل عنها أخاه جبريل -عليه السلام-، فإما أن يجيبه إن كان يعلم، وإما أن يستفتي فيها الله -عز جل-.
فالكل يعلم شيئًا ويجهل أشياء: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء: 85]، أما الذي يعلم كل شيء ولا يخفى عليه أي شيء فذاك هو الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا ولد، ذاك ه الله -عز وجل- وحده لا سواه: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المائدة: 97].
****
ومن استفتاك في دينه فقد جعلك شريكًا له في أجره أو في إثمه؛ فإن كان ما استفتاك فيه من الخير والبر والصلاح، فأفتيته بعلم وشجَّعته عليه ورغَّبته فيه فإن لك مثل أجره، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"(راوه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
وإن أفتيته بغير علم فقد صرت شريكًا له في إثمه، بل لربما نجا هو من الإثم، وحملتَه أنت كله وحدك؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وفي لفظ لابن ماجه: "من أفتي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه".
وفي القرآن الكريم وعيد شديد لمن تجرأ فقال في دين الله -تعالى- بغير علم، وجعل ذلك أعظم الآثام والأوزار والذنوب، قائلًا بعد ذكر مراتب الفواحش والكبائر المعاصي: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]، يقول ابن القيم: " وقد حرم الله -سبحانه- القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]؛ فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به -سبحانه-، ثم ربع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم"(إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم).
***
لذلك كله قد وجدنا كثيرًا من العلماء الأثبات والثقات الأخيار بل من الصحابة الأطهار يتهيبون أمر الفتوى، ويتهربون منه إن وجدوا من يكفيهم إياه، فهذا التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثًا إلا ود أن أخاه كفاه"(جامع بيان العلم، لابن عبد البر).
وفي نفس الكتاب جاء عن اثنين من الخلفاء الراشدين أن كلًا منهما قال: " أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا قلت في كتاب الله بغير علم"؛ إنهما أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
وقال ابن مسعود: "من كان عنده علم فليقل به؛ ومن لم يكن عنده علم فليقل: "الله أعلم"، فإن الله قال لنبيه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86]"، وصح عن ابن مسعود وابن عباس: "من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون"(إعلام الموقعين، لابن القيم).
وفيه عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألت عنك فدللت عليك، فأخبرني أترث العمة؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟ قال: نعم؛ اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم؛ فلما أدبر قبل يديه قال: "نعما قال أبو عبد الرحمن؛ سئل عما لا يدري فقال: لا أدري".
***
وفي كل عام يجعلون يومًا عالميًا للإفتاء، فلنجعله نحن يومًا عالميًا للتورع عن الافتاء إلا بعلم، وتقديم الأعلم ليفتي الناس، ونذكر أنفسنا دوما أن الافتاء قول في دين الله، فلا ننطقن فيه إلا بحق وصدق... ولهذه الأمر قد عقدنا هذه المختارة، وانتقينا لها من خطب العلماء ما يؤصِّل للأمر ويفصِّله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم