اقتباس
ومن جملة ما يأمر به الأئمة: أنظمة وقوانين ولوائح وضوابط يضعونها لصلاح أمر البلاد والعباد؛ فمن هو من عامة الناس إنما يهتم لأمر نفسه وأمر أهله خاصة، أما من هو في موضع المسئولية فإنما ينظر للمصلحة العامة التي قد تتعارض -أحيانًا- مع مصلحة بعض الأفراد الخاصة، والقاعدة تقول: "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة"...
كل سفينة بلا ربان غارقة، وكل ركب بلا قائد يضل الطريق، وكل جماعة بلا أمير فهي إلى بوار، وكل منزل بلا رب منزل أمره فرطًا، وكذا كل دولة بلا حاكم أو سلطان يدير أمورها فحالها إلى اختلاط وخسران وفوضى واضطراب... لذا فقد شرع الإسلام أن يكون للأمة الإسلامية أمراء وملوكًا ورؤساء، بل هي من أوجب الواجبات: فعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له..."(مسلم)، والمعنى: "لا حجة له في فعله، ولا عذر له ينفعه"(شرح النووي على صحيح مسلم). وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم"(أحمد)، ويعلق ابن تيمية قائلًا: "فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم: كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك"(الحسبة في الإسلام لابن تيمية). وقد وري عن تميم الداري -بسند فيه علة- أنه قال: تطاول الناس في البناء في زمن عمر -رضي الله عنه- فقال عمر: "... إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة..."(الدارمي في سننه). ويقول ابن تيمية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم""(مجموع الفتاوى). وصدق الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إِذا جهالهم سادوا *** وإذا وُلي ونُصب ملك أو رئيس على دولة إسلامية فقد وجبت طاعته وحرمت مخالفته ما حكم بشرع الله وأقام حدود الله، ففي كتاب الله -عز وجل- آية ذكرت من يجب طاعتهم، آية تقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، فأمر القرآن بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم بطاعة أولي الأمر بشرط ألا يخالفوا القرآن والسنة، لذا لم يكرر -عز وجل- لفظ: "وأطيعوا" مع أولي الأمر؛ لأن طاعتهم مشروطة بالمعروف لا في المعصية. ولقد حدث أن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية فاستعمل رجلًا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبًا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارًا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضًا، ويقولون: فررنا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف"(متفق عليه). ومهما كانت رقة حال من ولاه الله أمر المسلمين أو تواضع أصله... فإننا -معاشر المسلمين- مأمورون بطاعته، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة"(البخاري). أقول: وحتى إن أخذ مالك، أو جلد ظهرك فلا يحملنك التجني على مخالفته، يروي ابن عباس فيقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية"(البخاري). ومهما كان ما يأمر به من ولاه الله أمر المسلمين عسيرًا على النفس أو شاقًا على البدن فيجب على المسلمين تنفيذه والامتثال له، فعن عبادة بن الصامت أنه قال: دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: "أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان"(متفق عليه). ويؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"(البخاري). *** ومن جملة ما يأمر به الأئمة: أنظمة وقوانين ولوائح وضوابط يضعونها لصلاح أمر البلاد والعباد، فمن هو من عامة الناس إنما يهتم لأمر نفسه وأمر أهله خاصة، أما من هو في موضع المسئولية فإنما ينظر للمصلحة العامة التي قد تتعارض -أحيانًا- مع مصلحة بعض الأفراد الخاصة، والقاعدة تقول: "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة"، فقد نتغاضى عن بعض الضرر الذي يقع على بعض الأفراد -بشرط: أن يكون مما يحتمل- في سبيل تحقيق المصلحة العامة. ومن تلك الأنظمة التي يسنها ولي الأمر لتحقيق المصلحة العامة: قوانين تنظيم العمالة الوافدة من الخارج، بحيث لا يقع ضرر ولا ضرار، وإن ذلك مما تجب طاعة ولاة الأمور فيه، ويحرم مخالفتهم عليه؛ ما دام إنما وُضع لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة العامة، ولقد عانت الدول منذ سنوات عديدة من مشكلة الدخلاء الذين لا يتقيدون بنظم الدول المضيفة لهم فينشرون فيها الفوضى ويضرون بمقدرات الدول ويسيئون إلى من أحسن إليهم! هذا، وإن في اتباع الأنظمة ومراعاة اللوائح والقوانين: المصلحة والخير للجميع. *** ونعترف بأننا قد اختصرنا وما فصَّلنا، وأشرنا وما شرحنا، ووضعنا أيدينا على الجرح لكننا ما طببناه ولا طهرناه... وذلك لأننا تركنا هذه المهمات لمن هم أقدر منا على بيانها وإتمامها؛ ذلكم هم خطباؤنا الذين سيفصلون لنا الأمر من بدايته، ويبينون أصله ومنشأه، ويقدمون حلوله ودواءته... فنترككم الآن مع خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم