اقتباس
ضربت الغفلة بأطنابها على قلوب كثير من البشر، فيأكلون من فضل ربهم، ويشربون من الماء المعين، ويتمتعون بالظل الظليل، ويتنفسون هواءً عليلاً، ويعيشون متعًا غزيرة، ويتقلبون في خيرات وفيرة، ويرزقهم ربهم أموالاً نامية، وأبدانًا ناعمة، ويا ليتهم...
لا يشعر الإنسان بنعمة الله عليه إلا إذا فقدَها، أو حال بينه وبينها حائل، فلا يشعر بلذيذ الطعام إلا المحروم منه؛ مريضًا كان أو فقيرًا معدمًا، ولا يعرف قيمة الفراش الوطيء اللين إلا من يقاسي آلام الحرمان، أسيرًا كان أم سجينًا أو مبعدًا، ولا يستشعر قيمة العين وحاسة البصر إلا المحروم منها، ولا يستشعر قيمة الأولاد إلا المحروم من هذه النعمة.
وقد ضربت الغفلة بأطنابها على قلوب كثير من البشر؛ فيأكلون من فضل ربهم، ويشربون من الماء المعين، ويتمتعون بالظل الظليل، ويتنفسون هواءً عليلاً، ويعيشون متعًا غزيرة، ويتقلبون في خيرات وفيرة، ويرزقهم ربهم أموالاً نامية، وأبدانًا ناعمة! ويا ليتهم شكروا النعمة، وصرفوها فيما يرضي ربهم، بل قابل بعضهم نعم الله بالكفران، وغفلوا عن شكر نعمة ربهم عليهم.
وكذا جرت سُنة البشر وعاداتهم ينسون شكر النعم، ويجهلون قيمتها، حتى إذا فقدوها أو حال بينهم وبينها حائل ارتفعت قيمتها، وعظمت مكانتها، ولا يقدّر النعمة حق قدرها غير أولو البصيرة الذين يعرفون فضل المنعم -سبحانه وتعالى- ويشكرون عطاءه، ويعظّمون فضل الله عليهم، وهؤلاء ممن كُتبت لهم السعادة؛ فيرضى ربهم عنهم، ويسعدهم بنعمته، ويهنأون بما آتاهم الله من فضله.
في مثل هؤلاء الذين يقدرون نعمة الله، ويعرفون فضله، ولا يجحدون منّه وكرمه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله تَعَالَى لَيَرْضَى عَن العَبْدِ أنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ أَو يَشْرَبَ الشُّرْبَة فيَحْمَدَ الله عَلَيْهَا"(رواه مسلم)؛ فهم قوم يتلذذون بنعمة الله كباقي البشر، وينعمون بفضل ربهم كغيرهم تمامًا؛ إلا أنهم فقهوا معنى النعمة وأحسنوا شكر ربهم عليها، فيرضى الله عنهم، بخلاف من يرتع في النعم لا يعرف قيمتها، ولا يعظّم معطيها، ولا يشكر مُسديها، ويعرض عن واهبها.
ويقابل هؤلاء قومٌ عاشوا في أفياء النعم، وتفيئوا ظلالها، إلا أن عشا بصرهم وضعف بصائرهم جعلهم لا يشعرون بنعمة، ولا يشكرون ربهم عليها.
وتأمل في حال صالحي سلف الأمة عندما استشعروا قيمة النعمة فشكروها، ولم يكفروها؛ فهذا موقف فريد للإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله- كان حي الشعور رقيق القلب، يستشعر فضل الله عليه ويستحضر شكره في كل موقف، قَالَ صَالِحُ ابْنُ الإمام أَحْمَد بن حنبل -رحمهما الله-: "كَانَ أَبِي لَا يَدَعُ أَحَدًا يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ، بَلْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ الدَّلْوُ مَلْآنَ، قَالَ: الْحَمْدُ لله. فقلت: يا أبت: ما الفائدة بذلك؟ قال: يَا بُنَيَّ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ -عَزَّ وجل-: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك:30](البداية والنهاية لابن كثير:10-363).
فهل جربت يومًا فتحت صنبور المياه، فلما نزلت، تذكرت أن هذا الماء فضل عظيم ونعمة جليلة فشكرت ربك عليها؟! هل حدث ذلك مرة؟! أترك لك الجواب.
وموقف آخر من حياة السلف، واستشعارهم لنعمة الماء، واستغلال ذلك في دعوة البشر، ملوكًا وغيرهم، إلى التزام الحق والصراط المستقيم؛ فهذا ابن السماك يعظ الرشيد في شربة الماء.. دخل ابن السماك على الرشيد يومًا، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقُلة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قَالَ له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لو مُنعت هذه الشربة فبِكم كنت تشتريها؟ قَالَ: بنصف ملكي، قَالَ: اشرب هنَّأك الله، فلما شربها، قَالَ له: أسألك بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لو مُنعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قَالَ: بجميع ملكي، قَالَ ابن السماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء، لجديرٌ ألا يُنافَس فيه.. فبكى هارون (تاريخ الطبري:8-357).
إن الماء نعمة من أجل نعم الله على البشر، لا يعوّضه شيء، وكل طعام أو شراب قد يحل محله آخر، ويقضي ابن آدم منه وطره، إلا الماء؛ فلو شرب الإنسان عصائر الدنيا، بأنواعها المختلفة لم تسد مسد الماء، وقد جعله الله حياة للبشر؛ فلا تقوم حياة إلا به، ولا يستطيع إنسان إحصاء منافع الماء، وفي أي المجالات يحتاجه البشر، ولذا قال ربنا -سبحانه-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء:30]؛ فكل حي لا يستغني عن الماء، في سائر أنواع طعامه وشرابه، وعمله، وزرعه، وغرسه، وبنائه، فضلاً عن دينه..
وكذا يظل المرء عبدًا مقهورًا بالحاجة إلى الماء والهواء، وغيرهما من ضروريات نعم الله، ولذا فإن الصمد -سبحانه- لا جوف له، لا يأكل ولا يشرب، بل يصمد إليه الخلائق ويلجأون إليه في سائر حاجاتهم، فالعبد محتاج للحياة، ولا يملكها إلا خالقه -سبحانه- الذي جعل الماء سر الحياة.
لكن برغم ذلك كله؛ هل نحن نقدر نعمة الماء، أم نسرف فيها ونضيعها، فيخسر اقتصادنا، ونعصي ربنا؟ وتأمل معي هذا الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: "مَا هَذَا السَّرَفُ؟" فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومما يشهد لهذه الحديث ويقوّيه ما ثبت عن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ"(سنن أبي داود 96 وصححه الألباني).
والاعتداء في الطهور -أي: في الوضوء والاغتسال-: الإسراف في الماء وتضييعه، وهدره في غير طائل؛ فهل مَن يسرف في استخدام الماء في الشوارع، وغسيل السيارات، ويهدر الماء في المزارع والاستراحات، هل هؤلاء يشكرون نعم الله عليهم أم يكفرونها؟!
إن من الأمور التي تغيب عن أذهان كثير من المسلمين مع وعي أعدائهم بها -للأسف الشديد- أن الحروب والصراعات المقبلة في المنطقة العربية من المتوقع أن يكون معظمها بسبب التنافس في الحصول على المياه؛ إذ إن دول المنطقة وغيرها مقبلة على مرحلة صراع كبير على الماء العذب؛ بسبب تعرض كثير من الأراضي للتصحر والجفاف، وقلة المياه، ومن ثَم فإن من المتوقع أن تكثر الصراعات على الماء في المستقبل القريب.
وإذا كان هذا كلام المنظّرين والسياسيين والاستراتيجيين، فإننا كمسلمين نؤمن أن ربنا القدير قدَّر في الأرض أقواتها، وجعل مصالح عباده فيها، وفيها ما يغنيهم ويكفيهم، إلا أن سوء استخدام النعمة، وكثرة المخالفات الشرعية تذهب ببركة كثير من النعم، فضلاً عن أن تضيعها، قال ربنا الملك: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون:18]؛ فما استجلب البشر نعمة الله بقدر طاعته، وإن عصوه هانوا عليه، فجاعوا وعطشوا وأُخذوا بالعقوبات والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
إن الموسم موسم أمطار، وإن بعض البشر -هداهم الله- يتأففون من المطر، ويتضجرون منه، ولا يعرفون قيمته، مع أنهم لا غنى لهم عن المطر؛ إذ به يحيي الله الأرض، وينشر خيره، ويُنبت رزقه، ويتقلب البشر والطير والحيوان في الحياة، وتأمل في هذه الآيات الجميلة، قال الملك الحق -سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الروم:48-50].
إن نزول المطر لهو علامة وأثر من آثار رحمة الله بالبشر، ومن آثار جوده وكرمه، ومتى قدرنا هذه النعمة وشكرنا الله عليها، سعدنا بهذه النعمة، وامتلأت بلادنا ببركتها، ومتى غفلنا عن شكرها، ربما تنقطع وتزول وصدق العليم الحكيم إذ يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7]، نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين لنعمائه.
ومن أجل تذكير المسلمين بشيء من نعمة الماء وحاجة كل حيّ إليه، وآثارها المطر العظيمة، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضّح فضل الله على البشر بنزول المطر ووجوب شكر نعمة الماء، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم