اقتباس
لكن البوذيين أرادوا الأرض بلا بشر، نعم، أرادوا الاستيلاء على مملكة أراكان خاوية خالية من كل مسلم يحيا فوقها، فقاموا منذ عقود طويلة وحقب عديدة من الزمان بحملات إبادة جماعية وتطهير عرقي يستهدف قتل كل مسلم بلا جريرة ولا ذنب سوى أنه مسلم! (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]، فأقيمت المحارق التي حُرقت فيها أجساد المسلمين وهم أحياء، والمذابح التي ذُبح فيها المسلمون كما تُذبح النعاج والخراف، وبُقرت بطون المسلمات...
أهو قَدَر المسلمين؛ أن يكون لهم في كل يوم مأساة جديدة؟! أهو قَدَرنا أن يقوم لنا على كل شبر من أرض جرح ينزف؟! أهو قَدَر لنا ألا يكاد يهدأ لنا ألم حتى تحل محله آلام؟! ونقول: نعم، إنما هو قدَرنا، فما من شيء يحدث على وجه الأرض إلا بتقدير الله -سبحانه وتعالى- القائل: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]...
لكنه ليس قدرنا وحدنا، نعم، إنه ليس قدَر المسلمين وحدهم، بل هو قدر مكتوب وسنة ربانية مطردة تقع وتحل على كل أمة نكثت على عقبها وعصت ربها وتخلت عن دينها وباعت مبادئها. هو قدَر كل أمة ظلمت وتجاوزت وبغت وطغت وجاوزت الحد: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، إنه قدر كل أمة كثرت ذنوبها وخطاياها واستخفت بمعاصيها وتخاذل دعاتها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال -عز من قائل-: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40]، هو قدر كل أمة انشغلت بشهوات بطونها وفروجها ونسيت قضايا أمتها، قدر كل أمة تغافلت والسوس ينخر في عظامها، ولهت والطوفان يغرق أهلها!
هو قدر كل أمة تركت أسباب التقدم والرقي، وفضَّلت عليه الدعة والكسل والنوم، حتى احتاجت إلى غيرها وصارت عالة تتسول قوتها من أمم الأرض، وتستورد الخبرات من أعدائها، حتى صارت ذيلًا وتبعًا، حقيرة لا يؤبه لها! هو قدر كل أمة تفرقت شيعًا وخانت إخوانها فتفرق شملها وانفرط عقدها، وعصوا الأمر الرباني القائل: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]. فكل أمة ارتكبت هذه الموبقات فإن مصيرها السقوط والهلاك والذل والهوان والاستضعاف.... لا محالة، وإن ادعت بأنها مسلمة موحدة!
هو ماض نتذكره الآن باللوعة ونناجيه: أين أنت يا زمان العزة، يا زمان القوة والمنعة، يا زمان المجد والشرف، أين أنت يا أبا بكر يا صديق الأمة، أين أنت لتقول: " أَيَنْقُصُ الدين وأنا حي"؟! أين أنت يا عمر يا فاروق الأمة وأعداء الأمة يرتجفون إذا ما سمعوا اسمك؟! أين أنت يا معتصم يا من نادتك امرأة مسلمة مظلومة: "وامعتصماه" فصيرت لها جيشًا استنقذها وفتح عمورية، أين أنت يا صلاح الدين يا من أذقت الصليبين الذل والهوان؟! أين أنت يا قطز يا من دحرت التتر المغول وقصمت ظهرهم في عين جالوت؟!...
وإنني أتشكك هل لو بُعث هؤلاء أحياء اليوم هل يستطيعون أن يصنعوا شيئًا وحال الأمة كما نرى، هل سيبعثون الروح في جماد؟! بل الله وحده القادر على كل شيء، ولله در محمود غنيم حين استثار فينا مشاعر هذا الماضي حين قال:
إني تـذكـرت والذكـرى مؤرقـــة *** مجــداً تليداً بأيديــنا أضعــناه
أنّى اتـجـهت إلى الإسلام في بـلـد *** تجده كالطير مقصـــوصاً جناحاه
كم صرّفـتنا يـدٌ كنا نـُصـرّفـهـا *** وبات يحكــمنا شعب ملكنـــاه
يا مـن رأى عـمر تـكسوه بردتـه *** والزيت أدم له والكـــوخ مـأواه
يهتـز كـسرى علـى كرسيه فرقــاً *** من بأسه ومـــلوك الروم تخـشاه
هي الـعروبة لـفـظ إن نطـقت به *** فالشرق والضــاد والإسـلام معناه
استـرشـد الغـرب بالماضي فأرشده *** ونـحـن كان لـنا ماض نـسيـناه
إنّا مشــينا وراء الغرب نقتبـس من *** ضيـائـه فـأصـابتـنا شـظايـاه
بالله سل خلف بحر الـروم عن عرب *** بالأمس كانـوا هنا ما بالهم تاهـوا
فـإن تراءت لك الحمراء عن كثـب *** فسائل الصرح أن الـمجـد والجــاه
وانزل دمشـق وخاطب صخر مسجدها *** عمن بـناه لـعـل الصـخر ينعـاه
وطـف ببغداد وابحـث في مقابرهـا *** عــلّ امرأً مـن بـنـي العباس تلقاه
أين الرشـيد وقد طاف الغمــام بـه *** فـحـيـن جاوزا بـغـداد تـحـداه
هذي مـعالم خـرس كـل واحــدة *** مـنهن قـامـت خـطـيباً فاغراً فاه
الله يشهـد مـا قلـبـت سيرتهـم *** يـومـاً وأخـطأ دمع الـعـين مجراه
ماضٍ نعيشُ علـى أنقـاضـه أمماً *** ونـسـتمد الـقـوى مـن وحيِ ذكراه
اللهـم قـد أصبحت أهواؤنا شيعـاً *** فـامـنـن عـلـينـا براع أنت ترضاه
راع يعـيد إلى الإسـلام سيـرتـه *** يرعى بـنـيه وعـيــن الله تـرعـاه
وها هو جرح جديد ينزف الدم والقيح، ها هم مسلمو الروهينجا في إقليم أراكان الذي كان في حقبة من الزمان مملكة إسلامية مستقلة شامخة تتابع على حكمها أكثر من خمسين ملك من ملوك المسلمين، لقد كانت مملكة أركان في زمان العزة عزيزة قوية منيعة محصنة يرهبها كل ما حولها...
وقد ظلت مملكة أراكان قوية طوال الفترة التي كانت متمسكة فيها بدينها، فلما بدأ تمسك مسلميها بدينهم يضعف ولما تقاعسوا عن الأخذ بأسباب العزة، إذا بالله -عز وجل- يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيغتالهم، فتحولت عزتهم ذلًا وتبدلت مهابتهم هوانًا، فاحتل مملكتهم البريطانيون مرة، ثم احتلهم أراذل أهل الأرض وأحقرهم من البوذيين الأقذار عشاق الدماء مرة أخرى، فضمتها دولة بورما (ميانمار حاليًا) إليها حتى تصير إقليمًا من أقاليمها... وليتها إذ احتلتها وضمتها إليها عاملت المسلمين فيها مثلما تُعامل مواطنيها! لكن البوذيين أرادوا الأرض بلا بشر، نعم، أرادوا الاستيلاء على مملكة أراكان خاوية خالية من كل مسلم يحيا فوقها، فقاموا منذ عقود طويلة وحقب عديدة من الزمان -وما زالوا- بحملات إبادة جماعية وتطهير عرقي يستهدف قتل كل مسلم بلا جريرة ولا ذنب سوى أنه مسلم! (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]، فأقيمت المحارق التي حُرقت فيها أجساد المسلمين وهم أحياء، والمذابح التي ذُبح فيها المسلمون كما تُذبح النعاج والخراف، وبُقرت بطون المسلمات لتُقتل الأجنة البريئة التي لم تر الدنيا بعد ولم تستنشق هواءها! وطُرد المسلمون من أرضهم وديارهم وأموالهم، فصاروا لاجئين في بلاد غير بلادهم بعد أن كانوا أعزة أمجادًا في مملكتهم! كل هذا تحت سمع وبصر حكومة ميانمار الكافرة بل بمباركتها، وتحت سمع وبصر منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية والدول الشرقية والغربية المنادية بالحريات والديمقراطيات... فاتضح أنها شعارات كاذبة خاوية خالية من مضامينها وحقائقها! واتضح أن الحريات وحقوق الإنسان تلك التي يتغنون بها إنما هي مضمونة مكفولة لجميع البشر إلا المسلمين، فلك الحقوق الإنسانية ما لم تكن مسلمًا! ولك الحرية الكاملة بشرط ألا تكون مسلمًا! فلا حرية -في مواثيقهم الدولية- لمسلم، ولا ديمقراطية مع مسلم، ولا حرمة لدم مسلم ولا لدينه ولا لعرضه! العالم أغمض عينيه
فالمسلم كذباب يُسحق ولأن الأمة الإسلامية كلها قد أصابها ما علمتم، فإنها على مستوى الحكومات لم تحرك ساكنًا اللهم إلا ما تداري به سوءتها، أما على مستوى الشعوب وأفراد المسلمين فإنهم أصناف؛ فصنف من المسلمين لاهٍ لاعب غافل لا هًمَّ لهم في الحياة إلا نفوسهم وملذاتهم وأشخاصهم، لا يهتمون -وربما لا ينتبهون- لما يجري للمسلمين من مآس من حولهم، وصنف يدرون بما يحدث للمسلمين ويتابعونه ويحزنون له وقد يزرفون الدمع أسى وكمدًا، لكنهم قد كبلهم العجز وهالهم فداحة الظلم والبغي واحتواهم القنوط واليأس فظنوا ألا مخرج ولا حيلة إلا البكاء والندم على ماضٍ كان وانقضى ولن يعود أبدًا، فقعدوا لم يحركوا ساكنًا ولم يأخذوا بسبب!
وصنف ثالث مؤمن واعٍ مثقف، رغم المآسي أيقنوا أنها ستزول بأمر الله، ملأهم الأمل والثقة في نصر الله -تعالى- وفي وعده: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171-173]، وأيقنوا بقوله -عز وجل-: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 6]، وهم يدركون تمام الإدراك أن لهذا التمكين الذي يعقب الاستضعاف أسباب لا بد من الأخذ بها، أهمها أن نعود إلى ديننا ونتمسك بشرعنا ونعتز بإسلامنا، وهم يعلمون جيدًا ماذا عليهم أن يصنعوا لنصرة إخوانهم في أراكان، وعلى كل أرض عليها مسلم مستضعف.
ولهؤلاء الأصناف الثلاثة قد عقدنا هذا الملف العلمي؛ نبصِّر الصنف الأول منهم ونوقظه على ما يحدث لإخوانه من المسلمين، وأن تلك المآسي ليست في منأى عنه؛ فإنما هي مراحل وأدوار فإن لم يتخذ موقفًا ويأخذ بسبب جاء الدور عليه وعندها يفيق بعد فوات الأوان ويقول: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، ولات حين مندم! ونعظ الصنف الثاني بأن اليأس ليس من الإسلام، فقد جاءت قاعدة على لسان يعقوب في القرآن تقول: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، ونبلغه كذلك بوعود القرآن والسنة بأن النصر للإسلام والغلبة للإسلام، من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" (مسلم)، وكذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل" (ابن حبان).
أما الصنف الثالث فقد عقدنا هذا الملف لنشد عضده ونؤازره وندعمه، وندله على الطريق إلى نصرة إخوانه -وإن كان يعرفه-، ونصله بمن يعمل مثله من أجل آلام أمته لتتوحد الجهود فتؤتي الثمرة المرجوة... وقد جاءت مواد هذا الملف في أربعة محاور، فالأول تاريخي وتأصيلي، والثاني ينقل بعضًا من صور المآسي في أراكان، والثالث أعم؛ فينقل شيئًا من أحوال الأقليات المسلمة على وجه الأرض كلها، أما المحور الرابع فيحمل على عواتقنا مهمة العمل لنصرة المستضعفين في أركان وفي كل أرض عليها مسلم يهان، وصورة هذه المحاور كالتالي:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم