صناعة الهوان

عاصم محمد الخضيري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ توصيف لحال أمتنا 2/ أنا وأنت من صناع الهوان 3/ صناعة الهوان أسهل الصناعات 4/ حاجتنا إلى صناعة الهوان في الأعداء 5/ خطر التطاحن داخل المنهج الواحد 6/ ترك الجهاد وصناعة الهوان 7/ نداء لأولياء الدول الإسلامية 8/ خيار الأمة وصناعة الهوان 9/ المنافقون وصناعة الهوان

اقتباس

أنحنُ صناع الهوان؟! منذ متى ونحن صانعوه؟! بوذيٌ يقتلنا في بورما، ويهوديٌ في فلسطين، ونصيريٌ في سوريا وصليبيٌ في أفغانستان، وحوثيٌ في اليمن، ورافضيٌ في العراق، ثم رأيناك قد وَسِعَكَ أن تتهمنا بصناعة الهوان؟! أنحن صناع الهوانُ!..أيها الفردُ المسلمُ: هذا الهوان أنت قد صنعته بكلتا يديك، مع أنك عرفت الحق وطريقه، والباطل وسبيله، وعرفت أن ربك اللهُ، وأن دستورَك القرآن، وأن ...

 

 

 

 

الحمد لله تعز وتعلي، تمهل وتملي، تهبُ وتُصْلي، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ الصدق العلية سرمدا، أبديةً تُمحى بها الأوزار، هي سر هذا الكونِ شاهدة بأن إلهنا هو واحد قهار، فاهت بها كل الخلائق، مثلما سنبثها ماجن ليل واستبان نهار، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبدُ الله ورسوله رسولُ الله في الملكوت طابت، أُرومته وطابوا مقتفيه، قد تمم الله به مكارم الأخلاق، حتى غدا بنوره الإظلامُ في إشراق، وفي هداه أصبح الشتاتُ في تلاق، صلى عليه الله ما رقد الدجى، وما لاح في الآفاق من هديه الصبح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب : 70-71].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحـج: 1-2].

أما بعد:

 

واعجبا لك، كنت خطبتَنا أسبوعَك الماضي عن أبي الفرسان، وابنِ الهيجاء، وسامرِ الشجعانِ، فلأي شيءٍ إذَنْ تخطُبنا اليوم عن صُنَّاع الهوان؟!

 

لقد كنت أسمعتنا هدي وسيرة الرجل الرابع في الإسلام، عليِّ بن أبي طالب رضي الله، ولكننا رأيناك فاجأتنا باختتامك الحديثً عن صناعة الهوان! وما اكتفيت، فقد جلدت أمتك بتحميلها المسؤولية الكاملة بصناعته! أنحنُ صناع الهوان؟! منذ متى ونحن صانعوه؟!

 

بوذيٌ يقتلنا في بورما، ويهوديٌ في فلسطين، ونصيريٌ في سوريا وصليبيٌ في أفغانستان، وحوثيٌ في اليمن، ورافضيٌ في العراق، ثم رأيناك قد وَسِعَكَ أن تتهمنا بصناعة الهوان؟! أنحن صناع الهوانُ!

 

نحن الذين أريقت من جراحهم *** أمواهُ أوجُهِهِمْ واستمرأوا الهُونا

لا تقذفنَّا بلومٍ منك يا رجلاً *** ما أبصرت عينُك اليمنى مآسينا!

إنا لمن معشر أفنى أواخرَهم *** الذبحُ حينا وبؤساهم أحايينا

 

أنحنُ صُناعَ الهوان؟ والعالم اليوم يشوي كل شيء على النار ليُصليَ به ظهورنا، ويفريَ به بقايانا، ويستأصلَ شأفاتِنا، فمذ متى ونحن صُنَّاعَ الهوان؟!

 

أنحن الضحية والمعتدي؟!

 

سامحك اللهُ أيها الخطيب حين ألبسْتنا إهاب الذئاب، وأضفيت على غيرنا مسوحَ الظأن، ونحن البرءآء، الضعفاء، الحلماءُ، الكرماء، ما صنعنا الهوان يوما، ولكن، كان أعداؤنا هم الصُنَّاع!

 

إنه يجبُ أن تعلم هذه الأمة أن هروبها من تحمل مسؤولية هوانها، وعدمِ الاعتراف به، هو أولُ صناعةٍ للهوان.

 

فمن الذي صنع الهوان؟ ومن هم جلبوا بضعفهم هوان المسلمِ؟

 

إن أولَ صُنَّاعِ الهوان هو: أنت يا من تشكل أكثر من خُمُس الأرض، أنت أيها الواحد من مليارٍ ونصف مليار، أنت من صنعت الهوان.

 

أيها الفردُ المسلمُ: هذا الهوان أنت قد صنعته بكلتا يديك، مع أنك عرفت الحق وطريقه، والباطل وسبيله، وعرفت أن ربك اللهُ، وأن دستورَك القرآن، وأن نبيك محمدُ بن عبد الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن يوم العرض الأكبر حق، ثم لم يغنك العلم شيئا، فلا عزمَ ولا سلوك ولا جدية، بل صناعة الغثائية؛ حتى تحقق في مجموعنا قولُ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: "ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل".

 

أنت أيها الفرد المسلم أولُ صنَّاع الهوان: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].

 

هذه الأمة نبتتها منك، وسقاءها من ماءك، والرعي رعيك، وأنت الحصاد، فلا تدع الجراد يأكل تعبك، ويلتهم بقاياك.

 

أيها الفرد المسلم: لن نلوم غيرك من الذين احترفوا صناعة الهوان فينا، حتى غدونا كما ترى، فورب السماء والأرض: إن مصيبتنا في واحدنا هي أقسى من مصيبتنا من غيرنا!

 

إذا ضيعت نفسك فقد ضاع بعض أمتك، وإذا ضاع بعض أمتك ضاع كلها.

 

إن صناعة الهوان من أسهل الصناعات علما وعملا، يكفيك أن تصنع الهوان بأن تقول متحججا لكل من سألك عن دورك في ميزان الصراعات الحاضرة: أنا لا أمثل شيئا من هذا العالم، ولن أغني هذه الأمةَ من نفسي شيئا، أنا ذرة صغيرة من ملكوتٍ يُدار من عتاة الأرض وجزاري المجرَّات،  يكفيك أن تتحجج بهذا كي تصنع الهوان.

 

أيها الفرد المسلم:

دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وما تبصر

وتزعم أنك جرمٌ صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر

لن يعوزك شيء.

 

أيها الفرد المسلم العظيم: أيَّ دور في هذه الحياة، حتى صناعةِ التخذيلِ تستطيع فعله.

 

إننا نحتاج أكثرَ ما نحتاجُه اليومَ إلى دور التخذيل، ليس التخذيلُ داخل الصف، بل خارج الصف، تخذيلٌ كتخذيل نُعيم بنِ مسعود الأشجعي رضي الله عنه حين أعلن إسلامه في زمن خطير فاراً من عدوٍ خطير، في معركة خطيرة في غزوة الأحزاب، ليقابل النبي عليه الصلاة والسلام، ويعلن إسلامه رضي الله عنه، ليقول للنبي عليه الصلاة والسلام بلغة الواثق القادر على فعل كل شيءٍ في زمن حساس كهذا، يا رسول الله: إني قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من بني قومي، فمرني أمرك، ليجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما أنت رجل واحدٌ، ولكن خذل عنا ما استطعت".

 

ليكون هذا الرجلُ الأوحدُ الأعزلُ سببا في تقويض شمل الكلمة لأعداء الأمة، ولتُقوَّضَ بعد ذلك خيامُهم ويقذفَ الله في قلوبهم الرعب، يقتل المسلمون فريقا، ويأسرون فريقا.

 

أيها الفرد المسلم العظيم:

 

لا تقل إني وحيدٌ عاجز *** في يديك العزمُ يفري السبلا

 

أيها الفرد المسلم العظيم: تغير أبو بكر رضي الله عنه، فتغير بتغيره ستة من الذين بشرهم رسول الهدى بالجنة كلهم أسلموا، وكان باستطاعته أن يصنع الهوان بركونه وقعوده ليُكتب في سجلات المُعذَّرِين من الأعراب، وتغير عمر رضي الله عنه وحده، فتغير شرق الأرض وغربُها بفتوحاته العظيمة، ما ضره قد أتى فردا فباء بما لم يستطع صنعه الشم العرانينُ، وقف الأستاذ: "تي بي ارفنج" الأستاذ في جامعة "تنسي" الأمريكية يخاطب المسلمين في مدينة "جلا سجو" ببريطانيا منذ سنوات قائلا: "إنكم -أيها المسلمون- لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علميا، أو اقتصاديا، أو عسكريا؛ في الوقت الحاضر على الأقل، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا هذه الدولَ تجثو على ركبها أمامكم بالإسلام" ثم يقول: "أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض، تعلموا الإسلام وطبقوه، واحملوه لغيركم من البشر، تتفتح أمامكم الدنيا، ويدينُ لكم كلُّ ذي سلطان" ثم هز أركان القاعة بقوله: "أعطوني أربعين شاباً، ممن يفهمون هذا الدين فهما عميقاً، ويطبقونه على حياتهم تطبيقاً صحيحاً، ويحسنون عرضه على الناس بأسلوبِ العصر، وأنا أفتح بهم الأمريكيتين".

 

لا تقل إني وحيدٌ عاجزٌ *** في يديك العزمُ يفري السبلا

فلا تصنعنْ بيديك الهوان، كفانا من الكُفر هذا الهوان.

 

الصانع الثاني من صناع الهوان: التطاحن والاحتراب داخل الأمة الواحدة، والمنهج الواحد، والعقيدة الواحدة، وتلك لعمر الله قاصمة الظهر.

 

أعطني أمة واحدة، ثم مكِّن أجواء الصراع أن تسود بين الصف الواحد، أضمن لك أن تموت أمة الإسلام، أمة الإسلام تكاد أن تموت بلا تفرقة، فكيف إذا علتها طواحين الافتراق.

 

صناعة الهوان تكون حين لا يفقه الناس أدب الاختلاف، فيتناطحون لأي شيء.

 

صناعة الهوان تكون حين لا يعي علماءُ الأمة وطلبة العلم أيَّ أثر ستحدثه فرقتهم، والتراشق بينهم.

 

تكون صناعة الهوان حين يكون طلبة العلم هم أجهل الناس بمبادئ الاختلاف، فالتخوين حاضر، وتهمة الخارجيةِ حاضرة، والتبديع والتفسيق لأجل ما يسعه الاختلاف بينهم.

 

ثم نسأل أنفسنا لماذا في بلادنا أكثرُ من عشرينَ فصيلٍ سلفي، كل فصيل يزعم لنفسه ما لا يزعمه للآخر.

 

أما إني يا أجيال الخيرية: لا أقصد الشيعَ والمناهج الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، لا ورب السماء والأرض إنما أعني أهلَ العقيدةِ الواحدةِ، والمنهجِ الواحدِ، لما ذا تسودهم الفرقة والشتات، ولا يسعهم قولُ الله – تعالى-: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].

 

إذا افترق العلماء وطلبة العلم، والمستقيمون، والعباد في المساجد، فلن يحق لنا أن نبحث عن أسباب التعصب والاحتراب وسط الشوارع، وفي مدرجات الملاعب، وفي حانات القمار، وغيرها.

 

ألا يا ليت أنا نمهد لأجيالنا القادمةِ بيئة نظيفة؛ لنضمنَ لهم ولأنفسنا أن يمزقوا الهوانَ الذي مخر بحارنا السوداء.

 

كفى هواناً، وإيقادا لمعركة، نحن الوَقودُ بها لو يعلمُ الناس.

 

إن من صناعة الهوان: هذه الفصائل التي تتفق على كل شيء إلا في الجلوس على طاولة واحدة؛ لأن يستمعوا لبعضهم.

 

لقد كانوا من حيث لا يعلمون سببا في تأخر النصر من الله.

 

أقيموا بني أمي وفاقاً وألفة *** فما كاد فيكم غيرُ هذا التفرقُ

 

الصانع الثالث من صناع الهوان هو: ترك الجهاد.

 

إذا كنت ضعيفا مسكينا، فلن تنتظر من ذئب في غابة كهذه الغابة أن يمسح على رأسك، ويتخذك حليفا له وصديقا.

 

أقسم بمن شق العصا والنوى، وشعشع النور وحصَّل ما في الصدور: أن أعداء الإسلام لن يكفيَهم منك شيءٌ ولو وهبتهم كلَّ ما عندك من براميلَ نفطية، وأخضعت لهم كل ما ملكت يدُك، وأشربتهم من دمك، حتى تنزع يدا من إسلام، وتسلم عليهم تسليمة النصرانية واليهودية، أو تعطيَهم السيف، والسيف أهدى وهو أقوم قيلا، إنه كما يقول الله - تعالى -ومن أصدق من الله حديثا وقيلا: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) [البقرة: 120].

 

لن ترضى عنك أبدا أبدا، إنه كما يقول عز الدين القسام في خطبة له شهيرة: "إنهم يريدون أن يأخذوا منك دينك ومالك وعرضك وبلدك، ويجعلك بلا شيء خادما أسيرا مطاعا بينهم".

 

أوَ هذا سرٌ، يحدثنا القرآن عن ذلك قبل أن تحدثنا منظمة ويكيليكس، عن أسرارههم وأهدافهم، وعن خططهم فينا، وعن اتفاقياتهم الشوهاء، لن يرضوا عنا وعنكم أبدا ولو ضمنا لهم كل شيء، ولن تخف الضغوطات عن بلداننا ولو أوعدناهم بخروج المرأة من بيتها، وبتسليمها مقود السيارة، ولو ضمنا لهم أن نوقعَ على ما يسمى باتفاقية العنف ضد المرأة.

 

ولن يرتضوا منا حتى ولو أدخلناها فيما يسمى بمجلس الشورى، وجعلناها تمشي سافرة بين العلماء، ليكون تطبيعا لشرعنتها.

 

لن يرتضوا والله منا حتى نحقق لهم ما قاله الله عنا وعنهم، ولو أمرنا بالمنكر ونهينا عن المعروف.

 

صدقوني لن يرضيَهم منا أن نجرِّم الاحتساب والمحتسبين كي نعربن لهم عن طاعتنا، وأن ندعي لهم أننا سننظم الاحتساب إرضاء لهم، ونجعل الاحتسابَ حِكرا لمن يحمل بطاقة رسمية، فلا احتساب إلا بذلك.

 

صدقوني أنه لن يرضيَ أعدائنا منا ولو جعلنا مسؤول الاحتساب هو أولُ المجترئين على هذه الفريضة العظيمة.

 

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ولو كتبت لهم الضماناتِ تلو الضمانات بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف.

 

ولن ترضى عنك ولو عزلت بعض المسؤولين عنها، وأحللت آخرين.

 

لن ترضى أمم الكفر عنا، ولو أرضيناهم بقرارٍ يُلزم النساءَ استخراجَ بطاقةٍ شخصية تضع فيها صورتها، بدلا من البصمة التي هي أوثق منها وأكثرُ حماية لها، لن يرضوا أبدا وربِّ الذين خدعوكم بذلك.

 

ولن ترضى عنكم اليهود ولا النصارى ولو أحجمتم العمل الخيري، ووئدتم تأثيره.

 

ولن يرضوا عنكم حتى ولو جاهدتم الجهاد باسم الحرب على الإرهاب، وحبستم الناس بشبهةٍ وبغيرها إرضاءً لهم، لن يرضوا.

 

أتظنون يا أولياء الدول الإسلامية أن إلباس أممِ الكفر أوسمة الدرجة الأولى كافياً؛ لأن يعيشوا معكم بسلام وحب، كلا والسلام، قُتلت حمامة السلام في فلسطين وفي الشام وفي كل مكان.

 

ولن يحفلوا بكم حتى ترسلوا لهم أشعة أعينكم الحمراء، وتهزوا السيوف على الرؤوس لتهشم الكفر المبين، والنطق بالسيف ليس النطق بالقلم، أولياء الدول الإسلامية: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

 

أولياء الدول الإسلامية: لا تلوموا أمريكا ولا إيران ولا اليهود، على فِعْلِ ما يعتقدونه فيكم، بل لوموا أنفسكم، قال لهم دينهم: جاهدوا أعدائكم فجاهدوكم، وقال لكم دينكم: جاهدوا الكفار والمنافقين، فلم تفعلوا، فلا تنتظروا طاولة سلام حقيقي يزفونكم إليها.

 

أولياء الدول الإسلامية: أقولها بصراحة إن العالم اليوم يتحول إلى معمل كبير زاخر لإعداد المقاتلين، من لم يقاتل عقيدة أو حماسا أو غيرة على دينه، فسوف يقاتل حمية أو وطنية أو تحت راية عُمِّية، شعاره:

 

وإذا لم يكن من الموت بد *** فمن العار أن تموت جبانا

 

أو يقول:

 

إذا لم تكن إلا الأسنة مركب *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها

خدعة السلم والسلام سمعنا *** ها كثيرا، وما رأينا اليقينا،

فسلامهمُ الدماء، وإنا **** قد رضينا الجهاد حلفا متينا

 

أولياء الدول الإسلامية: لا يصح أن تحاربوا الجهاد وأصحابه، ثم نراكم تشتكون وتستنفرون الطاقات لعلاج أمراضه، وبؤر فساده، يداكم التي أوكت، وأفواهكم التي نفخت! كيف تقضون على فسادٍ حقنتموه في أوردة الناس.

 

إذا ما الجرح رُمَّ على فساد *** تبين فيه إهمال الطبيب

 

أولياء الدول الإسلامية: يهدي الملكُ فيصل رحمه الله هدية إلى ملك الروم كتب عليها: "إننا مستعدون أن نستغني عن البترول، ونعودَ للخيام، ونعيشَ مثل الأعراب، إذا استمر الأقوياء وأنتم في طليعتهم في مساعدة عدونا علينا".

 

إن منطق العالم المعاصر هو:

 

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يتق الشتم يشتم

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 123].

 

أقول ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان على يوم الدين وسلم تسليما كثيرا -.

 

أما بعد:

 

أقسى صناعات الهوان هي التي تأتي من حيث لا تحتسب، كم هي قاسية أن يصنع الهوان خيارُ الأمة، أوَ يكون ذلك؟

 

نعم.

 

حكى بعض المؤرخين: أن سلطان النصارى لما استولى على إقليم الأندلس، وكان من أعظم معاقل المسلمين، ودخل مدينة قرطبة، وكانت دارَ سلطنةِ المسلمين بالأندلس، فسأل عن دار القاضي فدلوه عليها، فلما وصل إليها نزل عن فرسه، وقبل عَتبَة باب الدار، ومرَّغ لحيته ووجهه عليها، فلما رفع رأسه سُئل عن ذلك، فقال: لولا خروج صاحب الدار عن شريعة دينه وحكمه بغير ما أُمر به ما وصلت إلى هذا الموضع، ولا سلَّطني عليهم، أفلا أجازيه بأن أقبل عَتَبةَ بابِ دارِه؛ لأنَّه كان السببَ في وصولي إلى هذا الموضع؟!

 

إذا كانت أسود الغاب خانت *** فقل بالله ما شأن ابن آوى

 

أيها العلماء: إنه الميثاق، فلا يضعِ الميثاقُ منكم، فإنما جموع الورى من وردكم تردُ النهرا

 

أيضيعَ الميثاقُ في بلدة شهدت نظم الميثاق، فأين الميثاق في قول الحق: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187].

 

أيها العلماء: أتخشون الناس: (فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) [التوبة: 13].

 

و(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28].

 

أيها العلماء: لا تخشوا مِن قِيل الحق سلطة جمهور أو مسؤولٍ أو منصبا.

 

أيها العلماء: تصنعون الهوان حينما تنقضون عرى المواثيق التي كُتبت عليكم، ليست مواثيقا دولية، بل المواثيقَ الربانية، ما أعظم موقفكم عند الناس وعند الله يوم العرض الأكبر.

 

تصنعون الهوان أيها العلماء حين ترون الحق، ثم ترون الباطل، ثم تقدمون مصلحةً موهومة على تبيانهما.

 

تصنعون الهوان عندما تصمتون، ليتخذ الناس بعدكم رؤوساً جهالا أو شباباً أغرارا ليُفتون بغير علم فيَضِلون ويُضلوا.

 

تصنعون الهوان أيها العلماء حين يُشرَّع الفساد أمام ناظريكم، ولا يسَعُكُم قولة نكير، أو قلق ضمير، إن الله بالذي تضمرون بصير.

 

انتظر كل فساد إذا فسد العلماء، انتظروا الربا أن يكون حلالا والزنا أن يكون لقاء عابرا، والكفر والإلحاد أن يكون حرية شخصية.

 

وإذا كان كذاك فستنكسر المأذنةُ، ويستولي السكارى على المحراب،
إنه لا يسعنا إلا نعجب للرسالة التي كتبها هولاكو إلى سلطان مصر، وقال فيها: "ودعاؤكم علينا لا يسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعُفُّون عن كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيانُ، وقد ثبت عندكم أننا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمورُ المقدَّرة، والأحكام المُدبَّرة".

 

رفعكم الله أيها العلماء بالذي حملكم إياه، فلا تُسقطوا نعمة الله بكفرها.

 

إذا كتم العالمُ الحقَّ لعنه اللاعنون حتى البهائم، أتشقون بالعلم غرساً ثم تجنونه ذلةً.

 

إذن فاتباع الجهل قد كان أسلما.

 

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما

 

الصانع الخامس من صناع الهوان: هو الصانع المقنَّع.

 

إن أعتى صناعات الهوان لهذه الأمة، هي الصناعات المقنعة، وشجرة الإسلام لا يُمكن أن تُجتث إلا بغصنٍ من أغصانها.

 

تعبت أمم الكفر حقبةً من الزمن بمواجهة الإسلام وأهله، ولكنها أراحت نفسها بعد ذلك، حين وضعت لها نُواباً في كل دار من ديار الإسلام، يكفلون لها تمثيل هذا الدورِ المأفون.

 

إننا نجب أن نُحيِّيَ كلَّ عدوٍ أزال لبوس وجهه، وهشَّم الأقنعة التي عليه،
وأبان عن سوأته، ونقول له: شكرا لفضل قناعك المنزوعِ،
ولكننا نقولها:

 

لا شكر الله كلَّ صاحبِ قناعٍ انتسب لهذه الأمة وهو معولٌ من معاولها، ولا شكر الله كل فرد رضيَ أن يكون قناعا مزيفا يمرِّرُه أعدائه حيثما أرادوا.

 

لا شكر الله كل من صنع الهوان بأمة المليار، لا شكراً لهم.

 

إنه لم يشهد الزمان سقوط دولة كما شهدتها بغداد في عهد الدولة العباسية، والدماء من تحت الحصى تشهد أن سقوطها ما كان عبر مواجهةٍ بين الإسلام والتتر، وليته كان ذاك، إنما كانت عبر عدو في ثياب صديق، سقطت؛ لأن المسؤول الأعظم في الدولة حينها ما كان مسؤولاً إلا حين ارتدى القناع، ليسهُلَ اقتحامُ الدولة، وليسجل ابن كثير -رحمه الله -ضحية هذا الاقتحام بأنه أكثرَ من مليوني نفس، أسال دماءَها قناعٌ أسود، قاتل الله الأقنعة وأصحابها.

 

إنه لا يحق لنا أن نلوم الأمة الصفوية حين نجدها تدعوا إلى دينها ومذهبها، في كل مكان، حتى وصلت به إلى كل غابة أفريقية يدعون فيها، ولم يكتفوا بذا بل أنشئوا المشافي ودورَ اللطميات دعوة إلى ما يبتغون، فهم لم يلبِسوا الأقنعة، بل كشفوا عن وجوههم، وقالوا: لا تقية بعد اليوم، وهاهم تراهم في الشام وفي العراق يبعثون سراياهم لقتال معلن، ولا يستنكفون عن الدعم بكل ما أوتوا، والأمة الإسلامية تستحي أن تبعث درهماً في وضح النهار لإنقاذ ما تبقى من عزتها، ولا يسعها أن تفك الحصار عن العمل الخيري.

 

إن إيران اليومَ على مذهبها الباطل كلَّ يوم تزداد فيه قوةً؛ رغم الحصار الاقتصادي والسياسي، وهي مع كل ذلك فأخطبوطها قد أكل الكثير من الدول.

 

إننا لا نلوم الآخرين على انتهاز الفرص، ولكن ينبغي أن نلوم أنفسنا إذا تركنا فراغا امتد فيه غيرنا.

 

إن خلاصة القول كله هو كما يقوله سيد قطب رحمه الله:
"إن البشرية تعيش اليوم في ماخور كبير، إن البشرية تتآكلُ إنسانيتها، وتتحلل وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان".

 

فاتق الله في نفسك وأمتك أيها الفرد المسلم، وانتشل نفسك من هذه الغثائية.

 

واتقوا الله في أمتكم أيها المتطاحنين في رحى الشقاق: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].

 

واتقوا الله يا أولياء الأمة الإسلامية، فكل مسؤول سيسأل عن رعيته، فأعدوا لسؤال الرعية لكم يوم النشور جوابا.

 

واتقوا الله يا علماء الأمة، فلن يأمن أحد أن يكون من الذين آتاهم الله آياته: (فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف: 175].

 

(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].

 

اللهم صل وسلم على عبدك..

 

 

 

المرفقات

الهوان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات