منذ سبعين سنة خلت، وأمام نظر العالم وصمته المريب؛ ظل النظام البورمي العسكري الاشتراكي المستبد يمارس دون حسيب أو رقيب إرهاب الدولة تجاه شعب مسلم أعزل لا يملك حولاً ولا قوة إلا بالله.
دعونا نتعرف في البداية على الضحية، ومَن هو الجلاد؟ وما سبب العدوان؟ حتى يتسنى لنا أخيراً البحث عن حلول عملية للحدّ من هذا العدوان الغاشم.
فالضحية هي أقلية مسلمة تدعى «الروهنجيا»، أو قل إن شئت «الشعب الأراكاني»، ويقطنون إقليم «أراكان» غربي بورما منذ 12 قرناً من الزمان، وهم في الجملة أبناء العرب الذين استوطنوا وتزاوجوا مع الهنود والفرس من سكان تلك المنطقة أو المهاجرين إليها على فترات متلاحقة. لهم حياتهم الخاصة، ونشاطهم المتمثل في الصيد والزراعة والاحتطاب، إضافة إلى التجارة المحلية البسيطة، كما أن لهم انتماءهم الديني المتمثل في الإسلام السني، وحبهم الشديد للحرمين الشريفين، وحرصهم على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم، واعتناءهم بعمارة المساجد والكتاتيب الإسلامية، خصوصاً في بلاد المهجر، حيث الحرية الدينية التي لم يحظوا بها في موطنهم الأصلي «أراكان».. تنتمي هذه الأقلية من حيث السحنة إلى مجموعة الشعوب الهندية الفارسية، مع مسحة عربية واضحة؛ لوجود عرق عربي ينبض فيهم، إذ استوطن رجال من العرب المنطقة قديماً كما أسلفت. يتحدث هذا الشعب لغة خاصة غير مكتوبة، وهي خليط من ثلاث لغات أساسية، وهي: العربية والهندية والفارسية، إضافة إلى مفردات إنجليزية دخلت لغتهم مع امتداد الاستعمار البريطاني مؤخراً، ويقال: إن لغتهم كانت تكتب في فترات معينة أثناء الحكم الإسلامي لموطنهم، لكنها اندثرت بسبب استهداف حضارتهم مع المد البوذي الذي انتهى باحتلال بلادهم عام 1884م، ووقوع المسلمين في وطأة القهر البوذي، ثم وقوعهم بعد ذلك تحت الاحتلال البريطاني. هذا ويعد إقليم «أراكان» آخر امتداد إسلامي متصل بالقارة الهندية شرقاً، حيث تأتي سلسلة جبال «أراكان يوما» كفاصل طبيعي بين الحضارتين الإسلامية والبوذية.
أما الجلاد، فهو ذلك النظام العسكري الحاكم، أو الطغمة الفاشية الغاشمة التي تحكم البلاد بالنار والحديد، يساند الجلاد رهبان بوذيون متطرفون أضفوا على العدوان ضد الأقلية المسلمة سمة القداسة والواجب الديني، ولذا كانت نتائج المؤامرة عنيفة جداً. دأب النظام الاشتراكي بمشاركة الرهبان، الذين نظروا في النجوم، فارتأوا إلى أن الخلاص من مسلمي أراكان هو هدف ديني مقدس، وأن خير وسيلة لتنفيذ الجريمة هي استثارة شعب المونغ البوذي الذي يسكن جنباً إلى جنب مع المسلمين، وعدم ظهور النظام العسكري في الصورة بشكل مباشر، وكان أول صيحة مقدسة لإخراج المسلمين وتهجيرهم في عام 1942م تمخضت عن قتل 100.000 مسلم أكثرهم من الأطفال والنساء والشيوخ والعلماء، فيما تمكن 30.000 مسلم من الهرب واللجوء إلى بلاد إسلامية أخرى، مثل: بنجلادش وباكستان وماليزيا وتايلند والسعودية والإمارات. لم يتوقف العدوان، بل ظل يُمارَس وفق خطوات منظمة كان آخرها مأساة عام 2012م التي هجّرت أكثر من 110.000 مسلم، وقتلت وجرحت عشرات الألوف من الأنفس حرقاً وغرقاً وقتلاً، جلهم من الأطفال والنساء، وتم اغتصاب أعراض آلاف الفتيات المسلمات.
أما سبب العدوان، فهو تحقيق الهدف المقدس بإخراج آخر مسلم من إقليم أراكان حتى تكون بورما، التي تعتبر نفسها وصية بوذا وأرض الباغودا ومحج البوذيين في العالم؛ خالصة للبوذيين ومحرمة على غيرهم، ولذا كان الهدف الأول والأخير تهجير المجتمع المسلم بأكمله، ولم يكن القتل والحرق والاغتصاب والإذلال وفرض الضرائب والقيود على ممارسة العبادة وبناء المساجد والمدارس والحركة والتنقل وممارسة المهن... وغير ذلك؛ أهدافاً في ذاتها، بل هي وسائل لتحقيق الحلم المقدس، ألا وهو التهجير؛ ولذا دوّى بها صريحة على الملأ الرئيس البورمي الحالي (ثين سين)، قائلاً: «لا نريد الرهنجيا أن يعيشوا بيننا، إنهم ليسوا من إثنيتنا، وأفضل حل هو أن يتم إعادة توطينهم في بلد ثالث، أو الزج بهم في مخيمات الأمم المتحدة». نعم، قالها المجرم السفيه، ونثرها على مسامع العالم المتخاذل الخائن، دون أن يهب أحد للنصرة أو تبديد الباطل، مثلما قال فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] ، أما الشمطاء (سوكي)، التي تزعمت الديمقراطية زوراً وبهتاناً، ونالت جائزة نوبل للسلام نفاقاً وسحتاً؛ فقد سكتت دهراً ونطقت كفراً ووضعت الضحية والجلاد في كفة واحدة.
مضت سبعون سنة، وكانت سنين قهر وظلم وإذلال، كانت سنين عجاف وإخافة وإرهاب، شابت من هولها الرؤوس، وسقطت من إثرها الأجنة من البطون. كل ما تتخيله من ظلم وقتل وإراقة دماء واستباحة أعراض وأموال وأنفس، تمت ممارسته وبأبشع الصور، بلا نكير ولا حسيب ولا نصير ولا معين ولا مغيث؛ إلا الله الحليم اللطيف، ولولا لطفه لما بقي من هذا الشعب عين تطرف على وجه البسيطة، لكن الله مظهر دينه ورافع كلمته ولو كره الكافرون.
نعم، مضت سبعون سنة، وأمريكا التي كنا ننظر إليها – نحن أمة المليار ونصف المليار - بعين الاستعطاف في كل نازلة تحلّ بنا علّها ترحمنا أو تشفق علينا أو على أقل الأحوال تنبس بكلمة نكير؛ هي من تقف اليوم بجانب بورما، إذ أضحت ملبية للشره الاقتصادي الأمريكي. أما الغرب وما أدراك ما الغرب، فلم يتحرك بكل دوله ومنظماته للنصرة. أما أمة الإسلام فهي على كثرة عددها غثاء كغثاء السيل، لا تجيد سوى الإدانة والاستنكار، ثم العودة إلى الفرش الوثيرة لاستكمال الرقاد والأحلام الوردية.. لم تعد تؤرقها أو تقض مضاجعها المشاهد اليومية لعشرات القتلى وهم أشلاء، ومئات الجرحى من الأطفال والنساء والعجزة وهم غارقون في أنهار الدماء، وهناك من يتشدق نفاقاً بكتابات أو عبارات تبرر ما يقوم به العدو من مجازر وحشية يشيب لهولها وفظاعتها الولدان.
إن الإجرام البورمي الرامي لإبادة الشعب الأراكاني المسلم لهو عمل مخطط له ومسوغ في كل وقت وآن، وغالب الظن أن الأمة بأكملها تمر اليوم بامتحان خطير ومحك يستظهر من خلاله العدو مدى تماسكها واتحادها ومدى قوتها وصمودها في إدارة ومواجهة التحدي..!!
العدو الآن يعربد براً وجواً وبحراً كما يشاء، يصول ويجول دون أن يبالي بأحد، والقوى العظمى تصفق له سراً وعلناً، ونحن نجتمع ونقرر ثم نخرج بما لا يساوي الحبر الذي نكتب به.. ماذا أفادنا التنديد واستجداء من لا يرحم، هل أوقف ذلك كله الدم النازف في جسدنا الجريح؟ وبماذا عسانا أن نجيب الطفولة التي انتهكت براءتها وصيانتها لتتمزق أشلاءً وأجزاء؟ كل أطفال أراكان اليوم بلا استثناء إما قتيل أو جريح على شفير الموت أو يتيم أو مروع به، وكل واحدة من هذه الحالات أمرُّ من الأخرى.. قلوبنا يا قوم تفطرت وتقطعت أوصالاً من هول مشاهد القتل والترويع والدمار الحاصل اليوم.
إننا جميعاً إخوتي نبحث عن فرج قريب، أو أمل يلوح في الأفق، علَّ أمتنا تستفيق من طول الغفلة والسهاد وتنفض عن نفسها غبار الذل والهوان، فلم نجد سوى مزيد من الألم.. ومزيد من الصمت المخيف.. بل مزيد من الخنوع للعدو اللعين.. كأن شبح الموت يطارد الجميع وقد أخرستهم سكراته.. أتساءل في ظل هذه الظروف العصيبة: ما الواجب علينا كأفراد وجماعات ودول وأمة لا تهزم من قلة؟ ما السبيل لإيقاف تدفق الدم النازف؟ ما السبيل لوضع حد لهذا الإجرام؟
أعتقد أن السبيل المادية لحلحلة المأساة، ووضع حد مؤكد لها؛ تكمن في أمور، وذلك باستصحاب الإخلاص والنية الطيبة، والعودة إلى دين الله - عز وجل - الذي هو أساس النصرة والتمكين، ألخصها فيما يلي:
- إيجاد موقف موحد من جميع الدول الإسلامية تجاه قضية أراكان.
- اعتبار دور منظمة التعاون الإسلامي، وإعطاؤها الصلاحيات كافة للتحرك، وعقد القمم، وإصدار البيانات، والتحدث في المحافل الدولية باسم الدول الإسلامية قاطبة، وتحريك القضية دولياً.
- قيام الدول الإسلامية بمسؤولياتها كاملة، وتتلخص فيما يلي:
العمل على تدويل القضية، وبذل الجاه والعلاقات لرفعها للدول ذات النفوذ والقرار، والعمل على استصدار قرارات قوية تطالب مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة بالتحرك الفوري للبت في القضية دون تأخير.
ممارسة الضغط الاقتصادي، وقطع العلاقات التجارية مع حكومة بورما (ميانمار)، وهذا جانب مؤثر جداً؛ لأن الدول الإسلامية تمتلك مقومات الطاقة التي لا يستغني عنها أي كيان في العالم.
ممارسة الضغط السياسي، وتكون على مسارين، هما:
1- مسار دبلوماسي يتعلق بإرسال رسائل قوية اللهجة لسفراء ميانمار لدى جميع الدول الإسلامية، مع ترقب ومتابعة المستجدات، أو طرد وسحب السفراء بصورة مؤقتة أو دائمة، إن لم يحصل أي تطور في القضية إيجاباً.. وأيضاً زيارة وزراء الخارجية لبورما لإيصال رسائل قوية حول إرادة تلك الدول تجاه القضية وبيان مواقفها.
2- مسار سياسي يتعلق بمتابعة تحرك ملف القضية لدى الدول ذات القرار والنفوذ، وإرسال الوزراء لتلك الدول.
تحريك الإعلام الإسلامي، وذلك لممارسة ما يلي:
1- المثابرة في إبراز القضية بمختلف الوسائل والبرامج.
2- توسيع الدائرة الإعلامية لمواكبة الأحداث أولاً بأول وتحليلها بواسطة خبراء سياسيين وبلغات عدة، وذلك في طريق تدويل القضية إعلامياً للفت أنظار العالم قاطبة.
3- تأهيل نفر من أبناء الأراكانيين إعلامياً، ومن ذلك فتح مشروع منح دراسية ولو كانت محدودة لتأهيلهم.
4- العمل مع الدول الأخرى لكسر الحصار والتعتيم الإعلامي.
5- تحريك وتنشيط العمل الإغاثي بصورة عاجلة، وذلك بإطلاق حملات إغاثة شعبية، والسماح للهيئات الإغاثية بالتحرك ضمن تحالفات دولية لبذل الإغاثة، وإشراك عناصر أراكانية من دول المهجر، وعناصر نشطة صديقة من دول الغرب، في مجالات تطوعية صرفة، والعمل على كسر الحصار المفروض إغاثياً، والإفادة من التجارب الدولية في هذا الشأن.
تحريك العمل القانوني والعدلي: وذلك بالسماح لنقابات واتحادات المحامين في جميع الدول الإسلامية والمحامين المتعاطفين من دول الغرب، بعمل تحالفات، لرفع القضية لمجلس الأمن وملاحقة المجرمين جنائياً، وكذا تأهيل مجموعة من أبناء الأراكانيين ممن تتوفر فيه الكفاءة في دورات ومنح دراسية قانونية لتمكنهم من تحمل مسؤوليات قضيتهم لاحقاً.
قيام المجتمع الإسلامي وأفراده بدورهم في النصرة، وذلك عن طريق:
التعريف بالقضية في المناسبات العامة والخاصة، حتى للأسر والأبناء والطلاب والجيران والأقارب.
إرسال برقيات برسائل احتجاج قوية للأمم المتحدة والحكومات لتبيين مواقف الأفراد والجماعات والمؤسسات أيضاً حيال القضية، والتأنيب الشديد على التقاعس والتخاذل، وهذا متاح قانوناً، ومعتبر.
قيام العلماء والدعاة بمؤسساتهم وتنظيماتهم وهيئاتهم وأشخاصهم، بدورهم الذي سيسألون عنه أمام رب العالمين، ببياناتهم ونصحهم وإرشادهم وتحالفهم، وفي خطبهم ودروسهم، وأمام طلابهم، وفي مساجدهم ومدارسهم وجامعاتهم.
المداخلة الإعلامية في البرامج للإضاءة بآرائهم ومواقفهم.
بذل المعونة المتاحة لإغاثة المنكوبين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويقتاتون ورق الشجر ويشربون المياه الآسنة.
تفاعل الأراكانيين في المهجر مع قضيتهم، ويكمن هذا التفاعل فيما يلي:
- اعتبار القيادات الموجودة والعاملة في الساحة، والعمل على تنمية شعور الانتماء للعمل المؤسسي القائم.
- الانخراط فوراً مع الأعمال المؤسسية المتاحة في الساحة لبذل ما يمكن بذله من مواهب وقدرات وطاقات.
- السعي الشخصي لتنمية القدرات والمواهب.
- التخلص من جميع الاختلافات واستعادة روح العمل كفريق واحد، ووضع الهدف الاستراتيجي نصب العين دوماً.
- البذل المادي والمعنوي للقضية، والبذل للأقرباء هناك في الداخل إن وجدوا وعرفوا.
- المثابرة في رفع المعنويات في الداخل والخارج، والسعي لقتل روح الانهزامية والضعف والعجز، وممارسة التشجيع على أعلى المستويات ولجميع الشرائح.
- بذل الوقت والجهد الكافي للعمل الإعلامي، لنتحول جميعنا إلى إعلاميين ولو مؤقتاً، ولكن بعقلانية وهدوء، وأخذ المعلومات من مصادرها، وتلقي التوجيه من مظانها.
- إشاعة القيم الفاضلة، والسعي الجاد لنشر الفضيلة والعودة الصادقة إلى الله، ولنكن جميعاً دعاة إلى الله بأخلاقنا وبكلامنا وبأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر.
- الإفادة من العلاقات في إبراز القضية والعناية بها.
- الاستمرار في الجهود وعدم اليأس والقنوط من النصر.
وأخيراً: ما أُخذ بقوة لا يُسترد إلا بقوة، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وترك الجهاد في سبيل الله وبُعدنا عن دروب المقاومة هو سبب ذلنا وانهزامنا، فلنعدّ لهذا الأمر عدته، ولنرفع من معنويات أنفسنا، ولنشجع ذواتنا ونكافئها حال الإنجاز.
ونقول أيضاً: رباه كن لإخوتنا المستضعفين في أراكان وفي كل قطر من أقطار الدنيا، فليس لهم معين ونصير سواك.. ما أحوجنا إخوتي أن نصدق الله بصدق الالتجاء إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.. وأن نصدقه بكرم البذل والعطاء لإخواننا من إحساسنا وضميرنا وانتمائنا وأموالنا ومن كل ما نستطيع، حتى من مهجنا، في سبيل الله عز وجل، حينئذ نعيش أحراراً أو نموت شرفاء بإذن الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم