اقتباس
ولعل من أخبث الأمراض وأشرسها وأشدها ألمًا وفتكًا بجسد الإنسان وتهديدًا لحياته هو مرض: "السرطان"؛ الذي يتسارع فيه انقسام الخلايا البشرية وتكاثرها بشكل غير طبيعي، فتظهر الأورام الخبيثة التي ربما أودت بحياة المصاب بها بعد أن تجرعه مرارة الآلام والأوجاع!...
أصاب من قال: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"، نعم؛ أغلب الأصحاء لا يقدِّرون ولا يدركون ما هم فيه من نعمة الصحة والعافية، ولا يشعرون بها إلا إذا حرموا منها بأن اختل جسدهم عن حال الاعتدال إلى حال الاعتلال.
والأدلة على ذلك كثيرة، فمنها: الواقع المشاهد والتجارب الحياتية المتعددة؛ لكن أهم الأدلة على هذا الأمر هو قول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"(رواه البخاري)؛ فلفظ: "مغبون إما مشتق من الغبْن بسكون الباء وهو النقص في البيع، وإما من الغبَن بفتح الباء وهو النقص في الرأي، فكأنه قال: هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو: ليس له في ذلك رأي ألبتة؛ فإن الإنسان إذ لم يعمل الطاعة في زمن صحته ففي زمن المرض بالطريق الأولى"(عمدة القاري، للعيني).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وكان ابن عمر، يقول: "وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"(رواه البخاري).
***
وفي زماننا هذا قد كثرت الأمراض وفتحت أبواب الأسقام والبلاءات والأوجاع والآلام، ومَنْ السبب في فتحها وكثرتها؟! أقول: فتحناها نحن بذنوبنا ومعاصينا؛ فها هو رسولنا الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)؛ فمقابل كل ذنب يُفعل، عقوبة وبلاء ينزل!
فصرنا نسمع بأمراض وأوبئة لم نكن نسمع بها من قبل، أشكال وألوان وأصناف وأنواع من البلاءات والأسقام والفتن... والله -عز وجل- ينبهنا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، ويعيد علينا: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا)[الروم: 41]، وصدق علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين قال: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة"(الداء والدواء، لابن القيم).
ولعل من أخبث الأمراض وأشرسها وأشدها ألمًا وفتكًا بجسد الإنسان وتهديدًا لحياته هو مرض: "السرطان"؛ الذي يتسارع فيه انقسام الخلايا البشرية وتكاثرها بشكل غير طبيعي، فتظهر الأورام الخبيثة التي ربما أودت بحياة المصاب بها بعد أن تجرعه مرارة الآلام والأوجاع!
وقد أشارت الإحصائيات إلى تزايد أعداد المصابين بهذا المرض الخبيث الذي يظهر فجأة وبلا مقدمات، فتقول منظمة الصحة العالمية: "السرطان سبب رئيسي للوفاة في جميع أنحاء العالم، وقد أزهق أرواح 10 ملايين شخص تقريبًا في عام 2020، أو ما يعادل وفاة واحدة تقريبًا من كل 6 وفيات... ويُصاب بالسرطان سنويًا: 400 ألف طفل تقريبًا"، وطبقًا لموقع الأمم المتحدة فإنه "من المتوقع أن يرتفع العدد الإجمالي لوفيات السرطان في جميع أنحاء العالم بأكثر من 60% في العقدين المقبلين، ليصل إلى 16 مليون شخص كل عام"، وأن عدد المصابين بالسرطان في العالم قد تجاوز 20 مليون مصاب في عام 2020 وحده... لذا جعلوا لهذا المرض يومًا عالميًا سنويًا؛ ليحذروا الناس من مسبباته، وينبهوهم إلى طرق اكتشافه، والمسارعة إلى علاجه.
***
وربما يتساءل متسائل فيقول: ولماذا خلق الله -تعالى- الأمراض من الأصل؟! أليس الله -عز وجل- كان ولا يزال قادرًا على محوها من الوجود، فيبقى الإنسان طوال عمره صحيحًا معافى هانئًا بحياته؟! والله لن ينفعه أن نتألم أو نمرض؟! فما الحكمة من خلقه -عز وجل- للأمراض والأوبئة التي تصيب الناس صالحهم قبل طالحهم؟!
ويجيب علماؤنا فيقولون: إن للمرض فوائد جمة، وفيه أسرار وحِكم ربانية كثيرة؛ فمن أول فوائد المرض: دخول الجنة إذا احتسب وصبر: فعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها(متفق عليه).
ومنها: قرب الله -تعالى- من عبده؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟"(رواه مسلم).
ومنها: رفع درجات المؤمن: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له منه"(رواه أحمد، وصححه الألباني).
ومنها: أجر لا حد له: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
ومنها: غفران ذنوبه: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن أم العلاء قالت: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مريضة، فقال: "أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه، كما تذهب النار خبث الذهب والفضة"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقد جمعنا ها هنا من الخطب القيمة ما فيه الفائدة والتأصيل والتنبيه على خفايا وأسرار الابتلاءات والأمراض، فإليك:
التعليقات