عرفة ركن الحج الأكبر - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات:

اقتباس

ولك أن تتخيل كم من الملايين بل من المليارات من البشر الذين وطأت أقدامهم أرض عرفات في يوم عرفة! إنهم بشر موحدون لا حصر لهم، ولا يعلمهم إلا الله -سبحانه وتعالى-، ودعونا ننقل إليكم الآن بعضًا من مشاعر وأحاسيس الصالحين على أرض عرفة...

في مثل هذا اليوم؛ يوم عرفة، ومنذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وعلى أرض عرفات، قام رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- خطيبًا في الناس، فخطب فيهم خطبة جامعة أصَّلت الأصول وقعَّدت القواعد، وضمت في كلماتها القلائل أركان الدين ومبانيه، يروي محمد بن علي بن حسين فيقول: دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت: أخبرني عن حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: جاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي خطب الناس فقال:   "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم إياد بن ربيعة بن الحارث -كان مسترضعا في بني سعد وقتلته هذيل-، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الأرض "اللهم اشهد، اللهم اشهد اللهم اشهد" ثلاثًا (النسائي في الكبرى، وأصله في الصحيحين).   وهذه هي إحدى فضائل يوم عرفة؛ أن كانت فيه خطبة حجة الوداع، خطبة في أكثر من مائة ألف من الصحابة الكرام الأبرار الذين قام الدين على أكتافهم.   

***  

والحق أن ليوم عرفة فضائل لا نكاد نحصيها، فنهما: أن الله -تعالى- سماه: "اليوم المشهود"، بل وأقسم به: فقال -تعالى-: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)[البروج:1-3]. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة..."(الترمذي، وحسنه الألباني).   ومنها لغير الحاج: أن صيامه يكفر ذنوب سنتين: فعن أبي قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:  "... صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده..."(مسلم)   ومنها: أنه أكثر يوم يعتق الله فيه الناس من النار: فعن عائشة إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟"(مسلم)، وهو بالتالي أكثر يوم تُغفر فيه الذنوب، فعن أنس بن مالك قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات وكادت الشمس أن تؤوب، فقال: "يا بلال أنصت لي الناس" فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنصت الناس، فقال: "معاشر الناس: أتاني جبريل آنفًا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هذا لنا خاص؟ فقال: "هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة"، فقال عمر -رضي الله عنه-: كثر خير الله وطاب. (التمهيد لابن عبد البر، وصححه الألباني).   ومنها: أن يوم عرفة هو آخر الأيام العشر التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"؛ يعني العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء"(البخاري، وابن ماجه واللفظ له).   ومنها: أن الله -عز وجل- يباهي بالواقفين فيه على عرفة ملائكته: فعن ابن عمر أن  النبي -صلى الله عليه وسلم-  قال لرجل من الأنصار عمن خرج يريد الحج: "... فإذا وقف بعرفة، فإن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإن كان عدد قطر السماء ورمل عالج..."(ابن حبان، وحسنه الألباني لغيره).  

 

إلى عرفات الله يا خير زائر *** عليك سلام الله في عرفاتِ

ويوم تولى وجهة البيت ناضرًا *** وسيم مجالي البشر والقسماتِ

على كل أفق بالحجاز ملائك *** تزفُّ تحايا الله والبركاتِ

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم *** لبيتٍ طهورِ الساح والشرفاتِ

أرى الناس أفواجًا ومن كل بقعة *** إليك انتهوا من غربة وشتاتِ  

 

ومنها: أن يوم عرفة يوم اكتمال الدين وتمامه: فعن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3] وعنده يهودي فقال: لو أنزلت هذه علينا لاتخذنا يومها عيدًا، قال ابن عباس: "فإنها نزلت في يوم عيدين: في يوم جمعة، ويوم عرفة"(الترمذي، وصححه الألباني).  

وهو حقًا يوم عيد لنا؛ فعن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"(النسائي في الصغرى، وصححه الألباني).   ومنها: أن أفضل الدعاء حضور قلب واستجابة من الله هو الدعاء في يوم عرفة، وحبذا لو على أرض عرفات: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء: دعاء يوم عرفة..."(الترمذي، وحسنه الألباني)، فادعو ربك وتضرع إليه وابتهل واجأر إليه مهما كان ذنبك ومهما كانت حاجتك:   وإني لأدعو الله أطلب عفوه ... واعلم أن الله يعفو ويغفر لئن أعظم الناس الذنوب فإنها ... وإن عظمت في رحمة الله تصغر (لطائف المعارف لابن رجب)  

ومنها: أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه: فعن عبد الرحمن بن يعمر قال: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاه ناس، فسألوه عن الحج؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه"(النسائي، وصححه الألباني).  

ومنها: أنه يوم ذل الشيطان وخزيه: فقد روي عن طلحة بن عبيد الله بن كريز -بسند مرسل- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى من يوم بدر..."(مالك في الموطأ، وضعفه الألباني).  

***  

أيها المؤمنون: فليكن يوم ذل الشيطان يوم عزٍ للمسلمين، فصم يوم عرفة إن لم تكن حاجًا، وتضرع إلى الله بالدعاء، واعمل فيه عملًا صالحًا علك تكون من المقبولين المعتقين من النار، ولعل من أهم الأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا اليوم -غير ما سبق- لتفوز فيه بالغنيمة التي لا يضاهيها غيرها، ومن ذلك:  

البعد عن الذنوب والمعاصي: فقد روي بسند ضعيف -وإن كان المعنى صحيحًا لا اختلاف فيه- عن عبد الله بن عباس أنه قال: كان الفضل بن العباس رديف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجهه بيده من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا يوم من ملك فيه سمعه، وبصره، ولسانه غفر له"(أحمد، والطبراني في الكبير)، فاحفظ سمعك وغض بصرك وأمسك لسانك علك تكون من المرحومين.   والأمر الثاني: الإكثار من ذكر الله عامة، ومن التكبير والتهليل خاصة: فقد قال الله -عز وجل- عن هذه الأيام: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28]، وعن محمد بن أبي بكر قال: قلت لأنس بن مالك غداة عرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: "سرت هذا المسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فمنا المكبر ومنا المهلل، ولا يعيب أحدنا على صاحبه"(مسلم).  

 

الأمر الثالث: إحسان الظن بالله: نعم أخي المسلم، أحسن الظن بربك، وتب إليه من ذنبك، واحذر أن يسجنك الشيطان في معصيتك؛ فيقول لك: كيف يغفر لك وقد فعلت كذا وكذا من الموبقات، أو يوسوس لك: أتتوب اليوم ثم تعود للذنب غدًا!، بل -يا أخي الكريم- تب ثم اطلب من ربك ألا تعود إلى المعصية أخرى، يقول يحيى بن معاذ: "العبد يوحش ما بينه وبين سيده بالمخالفات ولا يفارق بابه بحال لعلمه بأن عز العبد في ظل مواليهم"، وأنشأ يقول:

قرة عيني لا بد لي منك وإن *** أوحش بيني وبينك الزلل

قرة عيني أنا الغريق فخذ *** كف غريق عليك يتكل

(لطائف المعارف لابن رجب)  

***  

ولك أن تتخيل كم من الملايين بل من المليارات من البشر الذين وطأت أقدامهم أرض عرفات في يوم عرفة! إنهم بشر موحدون لا حصر لهم، ولا يعلمهم إلا الله -سبحانه وتعالى-، ودعونا ننقل إليكم الآن بعضًا من مشاعر وأحاسيس الصالحين على أرض عرفة، يقول ابن رجب الحنبلي: "كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع: فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء، وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني بعرفة فقال أحدهم: "اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم".  

 

ووقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: "واسوأتاه منك وإن عفوت".   وقال الفضيل أيضًا لشعيب بن حرب بالموسم: "إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرًا مني ومنك فبئس ما ظننت".   ودعا بعض العارفين بعرفة فقال: "اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني".  

ووقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى: "الأمان فقد دنا الانصراف فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين".   ووقف بعض الخائفين بعرفات وقال: "إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن، وأنا أتقرب إليك بنفسي، ثم خر ميتًا".   ومن الصنف الثاني الذين غلب عليهم الرجاء سفيان الثوري، يقول ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: "الذي يطن أن الله لا يغفر لهم".   وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقًا -يعني سدس درهم- أكان يردهم؟" قالوا: لا، قال: "والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق". (ينظر: لطائف المعارف لابن رجب).   فيا الله نسألك وندعوك ونرجوك أن تجعلنا من المعتقين من النار في يوم عرفة، وأن توفقنا فيه إلى القربات والصالحات وتتقبلها منا، وأن ترزق من يحج هذا العام بالوقوف بعرفة العام القادم... إن يا ربي على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.  

***  

وها هنا قد جمعنا عددًا من الخطب القيمة المؤصلة، لتجلية أمر يوم عرفة وبيان فضائله ومزاياها، علها تكون عونًا لخطبائنا الأحباب على حث الناس وحضهم لاغتنام هذا اليوم الفضيل، والله من وراء القصد.  

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية :
الخطبة الثالثة :
الخطبة الرابعة :
الخطبة الخامسة :
الخطبة السادسة :
الخطبة السابعة :
الخطبة الثامنة :
الخطبة التاسعة :
الخطبة العاشرة :
الخطبة الخامسة عشر:
العنوان
يوم عرفة .. فضائل وأحكام 2018/08/07 11642 887 48
يوم عرفة .. فضائل وأحكام

ومن كان يوم عرفة هو اليوم الثامن في بلدِه لاختِلاف مطالِعِ الأهلَّة فإنه يصومُ هذا اليوم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلقَ فقال: "يوم عرفة"، ولم يخصَّه بالتاسع، على الصحيح...

المرفقات

يوم عرفة .. فضائل وأحكام

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life