اقتباس
ومن حق المساجد على المسلمين صيانتها عن كل أذى وشر ومحرَّم، وعن كل ما لا يليق ببيوت الله -تعالى-، وأول ذلك أن يبنى المسجد على قبر؛ فعن عائشة -رضـي الله عنها- أن النبي -صـلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا...
هي أروع الأماكن وأفضلها، وأسمى البقاع وأشرفها، وأحب الأرض إلى الله -تعالى- وأقدسها، أتدري ما هي؟ إنها المساجد؛ عن أبي هريرة أن رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها"(رواه مسلم)، وذلك "لأنها بيوت خصت بالذكر، وبقع أسست للتقوى والعمل الصالح"(إِكمَالُ الـمُعْلِمِ)، يقول الطيبي: "قوله: "أحب البلاد": لعل تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميح إلي قوله -تعالي-: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[الأعراف: 58]"(شرح الطيبي على مشكاة المصابيح).
ومن بناه لوجه الله، بنى الله -تعالى- له بيتًا في الجنة؛ فعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- يقول: "من بنى مسجدًا لله، بنى الله له في الجنة مثله"(متفق عليه)، وعند أحمد: "بنى الله -عز وجل- له في الجنة أفضل منه"، وعنده -أيضًا-: "فإن الله يبني له بيتًا أوسع منه في الجنة".
ومهما كانت مساحة هذا المسجد صغيرة ضئيلة ففضل الله -عز وجل- أعم وأوسع؛ فعند ابن ماجه أن رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- قال: "من بنى مسجدًا لله كمفحص قطاة، أو أصغر، بنى الله له بيتًا في الجنة"(صححه الألباني)؛ فالقطاة نوع من أنواع الحمام، والمفحص: هو موضعها الذي تجثم فيه وتضع بيضها.
ولما كانت المساجد بيوت الله بهذه المكانة السامقة والمنزلة العالية، فإن روادها وزوارها وعمارها كذلك هم من أفضل الناس وأحسنهم؛ قال -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور: 36- 38].
وقد شهد الله -عز وجل- لعمار المساجد بالإيمان وصلاح العمل؛ فقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18].
ومن تعلق قلبه بالمسجد فهو في ظل الرحمن يوم القيامة؛ ففي الحديث المحفوظ أن النبي -صـلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: "ورجل قلبه معلق في المساجد"(متفق عليه).
ولشرف المكان، فإنك ما دمت جالسًا في المسجد فأنت ضيف الله، وحق على المزور أن يكرم زائره، فما بالك وأنت تزور بيت أكرم الأكرمين -عز وجل-؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- قال: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة"(متفق عليه).
والمجتمعون فيها على الذكر والقرآن هم جلساء الملائكة وأهل تنزل الرحمات؛ فعند مسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(رواه مسلم).
***
وللمساجد آداب يستحب أن ترعى، وسنن ينبغي أن تُتبَع، فأهمها: الإخلاص لله عند إتيانها ولا يدعى فيها إلا الله ولله؛ قال -عز من قائل-: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18]، والتحقيق أن هذا من الواجبات المتحتمات، وليس من السنن.
ومنها: الزينة والتجمل: لقوله -تعالى-: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، ومن العلماء من استدل بهذه الآية على وجوب ستر العورة في الصلاة، وعلى هذا فهي- أيضًا- من الواجبات لا من السنن.
ومن سنن المساجد: صلاة ركعتين عند دخولها: وقد سماهما العلماء بـ"تحية المسجد"، والأصل فيهما قوله -صـلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس"(متفق عليه).
ومنها: تنظيفها وتنزيهها عن النجاسات: فعن عائشة، قالت: "أمر رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف، وتطيب"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، قال سفيان: "قوله ببناء المساجد في الدور يعني القبائل".
***
ومن حق المساجد على المسلمين صيانتها عن كل أذى وشر ومحرَّم، وعن كل ما لا يليق ببيوت الله -تعالى-، وأول ذلك أن يبنى المسجد على قبر؛ فقد ورد من حديث عائشة -رضـي الله عنها- أن النبي -صـلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا"، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدًا(متفق عليه).
ومنها: صيانتها عن الروائح الكريهة التي تؤذي المصلين: عن جابر بن عبد الله أن النبي -صـلى الله عليه وسلم- قال: "من أكل من هذه البقلة، الثوم - وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"(متفق عليه).
ومن المكروهات: أن تتخذ المساجد طرقًا؛ فيمر فيها دون أن يصلي فيها شيئًا؛ جاء من حديث ابن مسعود أنه سمع رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين"(رواه ابن خزيمة، وصححه الألباني).
ومما يجب تنزيه المساجد عنه: الإعلان عن المفقودات فيها؛ قال النبي -صـلى الله عليه وسلم-: "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا"(رواه مسلم)، ومثله البيع والشراء في المساجد؛ فقد قال -صـلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومن المنهيات: زخرفة المساجد والتباهي بها: عن أنس أن النبي -صـلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد"(رواه النسائي وصححه الألباني)، ولما أمر عمر ببناء المسجد أمرهم قائلًا: "أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس"(رواه البخاري)، وقال أبو الدرداء -رضي الله عنـه-: "إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم، فالدمار عليكم"(شرح السنة للبغوي، وحسنه الألباني).
ولأن للمسجد من الفضائل كثير غير ما ذكرنا، ولأننا لم نذكر من آدابها وسننها إلا قليلًا، ولأن هناك أمور أخرى يجب تنزيه المساجد عنها، ولأننا لم نوف الموضوع حقه... لكل ذلك قد جمعنا هذه الباقة من الخطب لإتمام الأمر وإكماله.
التعليقات