المساجد أحب البقاع إلى الله

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2018-05-11 - 1439/08/25 2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/منزلة المساجد وفضائلها 2فضل رواد المساجد وعمارها 3/المساجد موطن نيل الهداية وتحصيلها دور المساجد في الصلاح والإصلاح 4/التحذير من مساجد الضرار 5/معرفة قدر بيوت الله وتعظيمها

اقتباس

أيها المؤمنون: المساجد بيوت الله، وأحب بقاع الأرض إليه جل في علاه؛ فيها أنس المؤمنين، وراحة قلوبهم، وطمأنينة نفوسهم، وقرة أعينهم، وفيها رفعة الدرجات، وعلو المنازل، وغفران الذنوب، وتكفير السيئات والخطيئات، ونيل رضوان رب الأرض والسموات. والمساجد بيوتٌ أذِن الله -تبارك وتعالى- أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، دعا جل وعلا عباده إلى بنائها وتشييدها، ودعاهم جل وعلا إلى...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وفي تقوى الله -جلَّ وعلا- خلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وهي: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

 

أيها المؤمنون: المساجد بيوت الله، وأحب بقاع الأرض إليه جل في علاه؛ فيها أنس المؤمنين، وراحة قلوبهم، وطمأنينة نفوسهم، وقرة أعينهم، وفيها رفعة الدرجات، وعلو المنازل، وغفران الذنوب، وتكفير السيئات والخطيئات، ونيل رضوان رب الأرض والسموات؛ جاء في الحديث في صحيح مسلم عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا"، وثبت في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَيُكَفِّرُ بِهِ الْخَطَايَا؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "كَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ".

 

أيها المؤمنون: المساجد بيوتٌ أذِن الله -تبارك وتعالى- أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، دعا جل وعلا عباده إلى بنائها وتشييدها، ودعاهم جل وعلا إلى عمارتها بطاعة الله صلاةً وذكرًا لله وقراءةً للقرآن وتعلُّمًا للعلم ودعوةً إلى الهدى والخير، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".

 

أيها المؤمنون: عمَّار المساجد هم أهل الخير وروَّاده، وأهل الفضل والنبلاء في كل مكان؛ لأن المساجد هي إشعاع الخير، ومنارة الهدى، والداعية إلى كل فضيلة ورضوان، قال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ) أي أهل هذه الأوصاف عمار بيوت الله (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18].

 

نعم -عباد الله-: إن الهداية ونيلها لابد أن يكون فيه صلةٌ من المرء ببيوت الله -جل وعلا- يقصدها ويؤمُّها، وإذا سمع النداء إليها "حي على الصلاة، حي على الفلاح" ابتهج قلبه وسُرت نفسه وتخلَّص من علائق الدنيا مهما كانت إقبالًا على بيوت الله -جل في علاه-، وطمعًا في نيل الهدى والفلاح الذي بيوت الله -جل وعلا- هي أعظم منازله، وأجل أبوابه.

ولهذا -يا معاشر المسلمين- شُرع لكل مسلم يدخل بيت الله أن يقول عند باب المسجد: "بِسْمِ اللهِ، والصلاة وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ".

في بيوت الله -جل وعلا- تُفتح أبواب الرحمة، وينال الرضوان، ويحصَّل الغفران، وتقال العثرات، وتكفَّر السيئات والخطيئات.

 

أيها المؤمنون: المساجد دور صلاحٍ وإصلاح، وهدايةٍ وإرشاد، وتعليمٍ ودعوة، ومحبةٍ وأخوَّة، وألْف والتناصح؛ فلا مجال في بيوت الله -جل وعلا- إلى مؤامرات آثمة أو تخطيطات مؤذية.

ولا مجال فيها -عباد الله- أن تُتخذ منابرها بابًا لإشاعة الفوضى، وتفكيك أواصر المجتمع، وتقطيع علاقة المحبة بين المؤمنين؛ فإن هذا -عباد الله- من أعظم الإثم وأشنعه، بل إن هذا العمل فيه شبهٌ بعمل المنافقين الذين اتخذوا مسجدًا ضرارا لمثل هذه الأغراض، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[التوبة: 107-109].

 

وتأمل -رعاك الله- قول الله -عز وجل-: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ) لتدرك من خلال ذلك أن عمارة المسجد تقوم على هذين الركنين العظيمين: تقوى الله -جل وعلا-؛ وهو يعني إخلاص العمل لله، وإفراده وحده بالذل والخضوع والانكسار، فالمساجد لله وحده فلا يُعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يُسأل إلا الله، ولا يُستغاث إلا بالله، ولا يُذبح إلا لله، ولا يُصرف شيء من العبادة إلا لله -جل في علاه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162-163].

 

وقول الله -عز وجل- (وَرِضْوَانٍ) فيه اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ لا طريق إلى نيل رضوان الله إلا باتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام-، مع الحذر الشديد من البدع المحدثات والأهواء التي ما أنزل الله -تبارك وتعالى- بها من سلطان.

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: عظِّموا بيوت الله -جل وعلا-، واعرفوا لها قدرها ومكانتها، وارعوا لها حقها ومنزلتها؛ حفاظًا على حق الله الذي أوجبه الله على عباده في بيوته المساجد؛ كما قال الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ)[النور: 36-37].

 

نسأل الله -جل وعلا- أن يمدَّنا أجمعين بالعون والتوفيق، وأن يجعلنا وذرياتنا من المقيمين الصلاة المعظمين لبيوت الله.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-.

 

عباد الله: كلنا يعلم أن شهر الخيرات والبركات والعطايا والهبات قد قرُبت أيامه، ودنت أوقاته الشريفة، ولحظاته الكريمة الفاضلة بما يحويه هذا الشهر من خيرات عظيمة، وخصائص جليلة، ومناقب جمة، جاء في الترمذي بإسناد ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ".

 

أيها المؤمنون: إنَّ من نعم الله العظيمة على العبد: أن يوفقه لإدراك رمضان بصحةٍ وعافية وأمنٍ وإيمان وسلامةٍ وإسلام؛ فاسألوا الله الكريم من فضله، واسألوه جل وعلا المد والمعونة على القيام والصيام في هذا الشهر العظيم المبارك على الوجه الذي يرضي الله، يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، و "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

 

بلَّغنا الله أجمعين شهر رمضان، وأعاننا فيه على الصيام والقيام، وجعله شهر عزٍ لأمة الإسلام في كل مكان، نسأله جل وعلا أن يعيننا أجمعين على ذكره وشكره وحسن عبادته.

 

أيها المؤمنون: صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ الصديق، وعمرَ الفاروق، وعثمانَ ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغنك بفضلك عمن سواك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثا، هنيئا مريئا، سحا طبقا، نافعًا غير ضار، عاجلًا غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر يا حي يا قيوم.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].

 

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

المرفقات

المساجد أحب البقاع إلى الله.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات