القيامة: البعث والحشر والنشور - 2

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

وإذا تأمل المرء في حياته يجد أن عمره قصير قياسًا على أعمار البشرية والقرون الغابرة التي عاشت وماتت واندثرت، يعيش المرء سنوات معدودة وقد سبقه مليارات البشر في الحياة ورحلوا بعد فترة امتحان عاشوها في الدنيا، وكذا سيرحل ابن آدم ويترك خلفه أجيالاً لا يعلم عددها ولا حصرها إلا رب العالمين سبحانه وجل وعلا، وصدق الله القائل: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)، نعم أتى على البشر سنوات كثيرة لم يكونوا معروفين، وعاشوا ورحلوا وبعد سنوات عديدة سيطويهم النسيان...

ليس شيء أصعب على المرء من الانتظار الطويل لقضاء حاجة ما، فهذا الانتظار يسبب لكثير من البشر مللاً وضيقًا، والأسوأ أن صار الانتظار بلاء منتشرًا في عالمنا اليوم، فهناك انتظار في البنوك وصالات السفر والمستشفيات، وانتظار لنتائج الامتحانات، وانتظار غائبين،... إلخ  صور الانتظار الممل التي صار يعاني منها كثير من البشر في عالمنا اليوم.

 

فهل تفكر العباد في طول انتظارهم في عرصات القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين؟! وهل يُقارَن انتظار الدنيا بيوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟! يقف العباد حتى يرهقهم الوقوف الطويل والخوف المرعب، والقلق العميم، نسأل الله السلامة والعافية.

 

وإذا تأمل المرء في حياته يجد أن عمره قصير قياسًا على أعمار البشرية والقرون الغابرة التي عاشت وماتت واندثرت، يعيش المرء سنوات معدودة وقد سبقه مليارات البشر في الحياة ورحلوا بعد فترة امتحان عاشوها في الدنيا، وكذا سيرحل ابن آدم ويترك خلفه أجيالاً لا يعلم عددها ولا حصرها إلا رب العالمين -سبحانه وجل وعلا-، وصدق الله القائل: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان: 1].

 

نعم أتى على البشر سنوات كثيرة لم يكونوا معروفين، وعاشوا ورحلوا وبعد سنوات عديدة سيطويهم النسيان، ولن يذكرهم أحد بعد رحيلهم، فكثيرًا ما يذكر المرء أباه وأمه، وقلما يذكر جده وجدته، ونادرًا ما يذكر ما فوقهما؛ إذن هو جيل واحد ثم يُنسَى الإنسان ولا يذكره ذاكرٌ، ولا يبقى له في قبره إلا عمله صالحًا كان أم غيره.

 

وبعد هذا المكث الطويل في القبور وبعد أن يصير البشر ترابًا، يأذن الله ببعث الأرواح الخامدة ونشر الأجساد الهامدة، فيخرج الخلائق من قبورهم إلى حيث مقر أرض الحشر، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُون) [الأنعام: 94].

 

ثم يُحشر العباد إليه ربهم (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93- 95]، كلهم يأتي  ربه فردًا وحيدًا، يحاسب عن نفسه، ويدافع عنها بل ويجادل ربه عن نفسه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [النحل: 111].

 

ولكن تختلف أحوال الخلائق في الحشر إلى ربها سبحانه، فكلٌّ يُحشر بحسب عمله، قال تعالى (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97].

 

ويكثر الخلائق في مكان واحد وتزداد معاناتهم وحسراتهم وقد وصف لنا هذا الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؛ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (صحيح مسلم 2864).

 

وفي هذا اليوم الشديد يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34- 37]، فيا له من موقف ما أشده! يوم يهرب الإنسان من أقرب الناس إليه وينشغل بنفسه، لا همَّ له إلا أن ينجو من شدة الموقف.

 

وتزداد معاناة الخلائق من الوقوف الطويل في أرض المحشر فيلجئون إلى الأنبياء والرسل يستشفعون بهم إلى ربهم لفصل القضاء، وحدث أبو هريرة - رضي الله عنه- عن هذا الموقف العصيب فقال: «كنّا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في دَعْوة، فرُفِع إليه الذِّراعُ - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة، وقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون: ممَّ ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيُبْصِرُهم الناظر، ويسمَعُهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول: بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفعُ لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بَلَغنَا؟ فقال: إن ربي غَضِبَ اليومَ غضًبا لم يغْضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيتُ، نفسي، نفسي، نفسي، اذّهبُوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنتَ أولُ الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفعُ لنا عند ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنَّه قد كان لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، ....، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية: فيأتوني - فيقولون: يا محمد، أنت رسولُ الله وخاتم الأنبياء، قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلقُ، فآتي تحت العرش، فأقَعُ ساجدا لربّي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحُسنِ الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسَك، سلْ تعطه، واشفع تُشفَّع" (صحيح البخاري 4435).

 

وفي هذا الموقف العصيب يؤتى بجهنم لها أصوات مرعبة تزمجر، ويُضرَب الصراط على متن جهنم فيمر الخلائق عليه بقدر أعمالهم، فمنهم الناجي وآخر مخذول مكردس في نار جهنم، ثم تُنصب الموازين، وتتطاير الصحف فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه ومنهم من يأخذه بشماله، وينقسم الخلائق إلى مرحوم ومحروم، فتشتد فرحة الناجين ويعظم حزن المعذبين، وما أصدق وصف رب العالمين لعرصات القيامة وشدة الموقف، قال جل وعلا: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 13- 32]، نسأل الله السلامة والعافية.

 

وعلى من يرجو النجاة من مواقف البعث والحشر والنشور أن يتعاهد التوبة والأعمال الصالحة فهي سبيل النجاة، وليحذر العبد من أي شرك أو بدعة أو ضلالة تحل عليه سخط الله غدًا، مع الإكثار من الدعاء بأن ينجيه الله من هذا الموقف العظيم.

 

ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
العنوان
البعث والنشور 2008/12/01 15513 1483 82
البعث والنشور

إنه البعث والنشور، والخروج من الأجداث والقبور، والوقوف بين يدي الكبير المتعال للحساب والجزاء وعرض الأعمال، ثم المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار.<br>(فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ) آل عمران:185.

المرفقات

315

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life