الرجولة - ملف علمي

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-11-28 - 1444/05/04
التصنيفات: الملفات العامة

اقتباس

إذن فليست الرجولة صوتًا خشنًا أجشًا وشاربًا ولحية وعضلات مفتولة ودهاء ومكرًا... بل إن كل من حوى الفضائل والمكارم وتطلع إلى المعالي وتنزه عن الدنايا والسفاسف فهو الرجل مهما كان جنسه أو سنه أو لونه أو وظيفته...

عجيب أمرك يا مريم يا صِدِّيقة؛ كيف يأمرك ربك بصلاة الجماعة مع الرجال مع أنك من النساء؟! فيقول لك: (يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)[مريم: 43]؛ لكن الإمام البقاعي يوضح السبب قائلًا: "ولتكن صلاتك مع المصلين؛ أي في جماعة، فإنك في عداد الرجال؛ لما خصصت به من الكمال"(نظم الدرر، للبقاعي).

 

نعم، "فإنك في عداد الرجال"؛ فالرجولة -إذن- ليست قاصرة على الذكور وحدهم، بل إنها لتشمل من كملت من النساء، وإن من الذكور من هو منسلخ من فضيلة الرجولة، فهو بعيد عنها وهي بريئة منه، "فليس جميع الذكور رجالا"!

 

لكن ما هو مقياس الرجولة؟ ومن هو الرجل الحقيقي؟ وما هو حد الرجولة وتعريفها كي نتمكن أن نُدخِل فيها من استحقها، ونقصي عنها من ليس جديرًا بها؟

 

عُرِّفت الرجولة بأنها صفة جامعة لكل صفات الشرف والفضيلة، يصاحبها شعور بالمسؤولية تجاه الدين والنفس والأهل والمجتمع والأمة، والذود عنها، وعدم الرضا بالذل والمهانة والضيم.

 

فما من فضيلة حميدة إلا وهي داخلة في وصف الرجولة، يقول صاحب "حلية طالب العلم": "تمتع بخصال الرجولة من: الشجاعة، وشدة البأس في الحق، ومكارم الأخلاق، والبذل في سبيل المعروف، حتى تنقطع دونك آمال الرجال، وعليه، فاحذر نواقضها من: ضعف الجأش، وقلة الصبر، وضعف المكارم..".

 

إذن فليست الرجولة صوتًا خشنًا أجشًا وشاربًا ولحية وعضلات مفتولة ودهاء ومكرًا... بل إن كل من حوى الفضائل والمكارم وتطلع إلى المعالي وتنزه عن الدنايا والسفاسف فهو الرجل مهما كان جنسه أو سنه أو لونه أو وظيفته...

 

***

 

ولقد قدَّم لنا القرآن الكريم نماذج للرجولة الحقيقية وللرجال الحقيقيين، ومن صفاتهم:

أنهم عمار المساجد: يقول الله -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36-37]، أولئك الرجال الذين شهد الله لهم بالإيمان: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)[التوبة: 18].

 

وثانيهم: الصادقون مع الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23]، وقد أكد أنس -رضي الله عنه- أن عمه أنس بن النضر هو أحد الرجال الصادقين المعنيين في هذه الآية؛ حين غاب عن قتال بدر، فقال: "لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع"، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، -يعني المشركين- ثم تقدم"، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: "يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد"، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه(متفق عليه).

 

أما هذا فالشاهد له أنه من الصادقين هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه؛ فعن شداد بن الهاد أن رجلًا من الأعراب جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيًا فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه فجاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا فقال: "قسمته لك"، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة قال: "إن تصدق الله يصدقك"، فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهو هو؟"، فقالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه"، ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته عليه: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد عليه"(رواه النسائي).

 

***

 

هذه هي المقاييس الحقة للرجولة، وكل ما عداها زلل وخطأ وخلل، ولطالما صحح النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس معاييرهم؛ فعن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟" فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيك في هذا؟" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"(رواه البخاري).

 

ولما ضحكوا من دقة ساقي ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد"(رواه أحمد)، وعلى العكس من هذا تمامًا: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف: 105]"(متفق عليه).

 

***

 

ولأن الرجال في كل عصر وأوان قليلون نادرون: "تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة"(متفق عليه)؛ فقد خصصنا لهم هذا الملف العلمي نُعرِّف بهم، ونُجلِّي أوصافهم ونبرز خصائصهم، ونضرب لهم النماذج والأمثلة... وقد قسمنا محاوره على النحو التالي.

الرجولة
المحور الأول: معنى الرجولة، وفضائلها، وأهميتها، ومصانعها
المحور الثاني: صفات الرجال في القرآن والسنة وفضائلهم
المحور الثالث: مواقف ونماذج للرجولة، وأخرى لفاقديها
المحور الرابع: كتب ومراجع وإحالات
العنوان
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life