الشيخ طه محمد الساكت
عن أنس - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنسُ بن النضر عن قتالِ بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئن اللهُ أشهدَني قتالَ المشركين ليَريَنَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحُد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذِر إليك مما صنَع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تَقدَّم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعدُ بنَ معاذ، الجنة، وربِّ النضر إني أجدُ ريحَها من دون أُحُد! قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِل، وقد مَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته بِبَنَانِهِ.
قال أنس: كنا نُرى - أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]، إلى آخر الآية.
وقال: إن أخته - وهي تُسمَّى الرُّبَيِّع - كَسَرتْ ثنيَّةَ امرأة، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالقِصاص؛ فقال أنس: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تُكسَر ثَنيَّتُها، فَرَضُوا بالأرْشِ وتركوا القِصاص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه))؛ رواه الشيخان[2].
المفردات:
• البنان: الأصابع، وقيل: أطرافُها، وهي الأنامل، واحدتها بنانة.
• والثَّنِيَّة: واحدة ثنايا الفم، وهن أربع في مقدمه؛ ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل.
• وأَرْش الجراحات: ديتها، وجمعه أُرُوش.
• وإبرار القَسَم: تصديقه، وعدم تحنيثه.
كتائب الفداء:
إذا صحَّ للأمم الحديثة أن تَفخَر بما تُسمِّيه في نظام جنديَّتِها بالكتائب الفدائية، أو فِرق الموت، فإن الإسلام أولى منهن بذلك وأحق، ونُبادِر بأنَّا لا نذكُر النُّظمَ الإسلامية، إلا كما نذكر الشقاء بجانب السعادة، والضلالة بجانب الهداية، والموت بجانب الحياة، والضد - كما يقول علماء النفس - أقرب خطورًا بالبالِ إلى ضده، وإلا فأين مَن يُلقي بيده إلى التهلكة في سبيل الاستعمار والغلب والجشع، واستلاب الأموال والأعراض، والبطش بالضعفاء والمساكين - ممن يُرحِّب بالموت في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وإحقاق الحق ونُصرته؟ وأين مَن يَقذِف بجسمه طُعْمةً للحرب على غِرَّة؛ انتصارًا لعقيدة آثمة، أو إجابة لثورة جامحة - ممن يَبذُل نفسَه مطمئنة راضية؛ ابتغاء مرضاة ربه، وشوقًا إلى نعيمه وقُرْبه؟ ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ﴾ [الرعد: 18].
كان الإسلام غنيًّا بهؤلاء الفدائيين، بل كان كل أتباعه مثلاً في تفديته بالنفس والنفيس - على درجات بينهم - إذا مُسَّت دعوة الحق، أو أُهينت كلمة الصدق، أو انتُهكت حُرْمة العهد والذمام، أو فُصِمت عروة الحِلْف والوئام.
وهذا أنس بن النضر - رضي الله عنه - أحد السابقين الأولين، والأبطال الفدائيين، يَكبُر عليه أن يغيب قهرًا عن غزوة بدر، أول غزوة أُسِّس عليها مجد الإسلام، وشهِدها النبي - عليه الصلاة والسلام - فيتمنَّى على الله أن يُعوِّضه خيرًا مما ضاع منه، وأن يُشهِده موقعة يُبلي فيها بلاءً حسنًا، ويُري ربه فيها - وهو أعلم به - أنه وَفِيُّ العهد، صادق الوعد، قد باع نفسَه وماله لله، لا يبتغي شيئًا غير فضله ورضاه، ثم يجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيذكُر له أمنيَّته، ويُوثِّق لديه عهده، حتى إذا جاءت غزوة أحد، وما أدراك ما غزوة أحد؟ أصيب بها الغزاة ببعض ما كسبوا، وأثابهم الله غمًّا بغَمٍّ بما انحرفوا، وكادت الدائرةُ تدور عليهم بما تَعجَّلوا، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لذهبت ريحُهم، وامَّحت آثارهم.
جاءت هذه الغزوة، فصدق المسلمون حملتَهم في معمعان الحرب، وأثخنوا أهلَ الشرك تقتيلاً وتنكيلاً، حتى ولوا مُدبرين خاسرين؛ هناك برقت لهم غنائم المشركين عن كَثَب، فامتدَّت إليها عيونُهم، وتطلَّعت لها نفوسهم، فنسُوا أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألا يَبرحوا مكانهم، ولو كانت العاقبة لهم، وهنالك أحاط المشركون بهم، وقد رأوهم اشتغلوا بدنياهم عن آخرتهم، فأعمَلوا فيهم سيوفَهم، حتى كادوا يَظفَرون بهم!
الفدائي الوفي:
وبيْنا الجيش مُنكشِفٌ مُضطرِب، قد تمزَّقت صفوفُه، وانفرط عِقده، جاء الفدائي الوفي أنس بن النضر - رضي الله عنه - يفي بنذره، ويَبَرُّ بقسمه، ويستقبل الموت استقبالاً رهيبًا لم يعرف التاريخُ مِثلَه، حتى إذا لقي سعد بن معاذ منهزمًا - وهو من هو شجاعةً وثباتَ جأشٍ - صاح به: واهًا لريح الجنة! إني لأجد ريحها - وَرَبِّ النضر- عند هذا الجبل![3] وما هي إلا أنفاس معدودة، حتى دخل الجنة فَرِحًا مستبشرًا: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 169، 170].
قال سعد وهو يَصِف للرسول - صلى الله عليه وسلم - إقدامَ أنس، وحُسْن بلائه: والله ما استطعت يا رسول الله على عظيم بلائي أن أصنع صنيعَه، أو أن أُبلي بلاءه، وقال ابن أخيه أنس بن مالك: ولقد وجدنا به أكثر من ثمانين ثُلْمة، ما بين ضربة بسيف، وطعنة بسِنٍّ، ورمية بنبل، ولقد شوَّهه المشركون تمثيلاً وتقطيعًا، فلم يعرفه أحد إلا أخته الرُّبَيِّعُ بنت النضر، عرفتْه ببنانه، وكان حَسَنَ البنان جميلها، قال أنس: فكنا - أصحابَ رسول صلى الله عليه وسلم - نرى أن هذه الآية الكريمة، قد نزلت فيه، وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، وليت شعري فيمن تنزل هذه الآية إن لم تنزل في مِثل هذه الصفوة التي اصطفاها الله لإعزاز دينه وإعلاء كلمته؟!
ولم تُنسِ أنسًا - رضي الله عنه - دهشةُ الموقف ورهبته، أن يَعتذِر لربه وهو ماضٍ في سبيله عن المسلمين الذين تفرَّقوا، وتبرَّأ من المشركين وقد تجمَّعوا[4]، وأن يكون مَثلاً عاليًا في صِدق اللقاء، والصبر على البلاء، واستعجال اللحاق بالشهداء.
فضل أنس بن النضر ومنزلته عند الله:
ومَنقَبة أخرى يرويها أنس بن مالك عن عمه - رضي الله عنه - تَدلُّ على ما له عند الله من فضل ومنزلة: تلك أن أخته الرُّبَيع خاصمت جاريةً من نساء الأنصار أغضَبَتْها في شيء، فلطمَتْها فكسرت ثَنِيَّتها، فدُعي أهلها إلى الصلح فأبَوا إلا القِصاص، وتحاكَموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((كتاب الله القِصاص))، وهو - صلوات الله عليه - لا تأخذه في الحق لومةُ لائم، ولو كان أقرب الناس إليه، فقال أنس - وهو يرجو العفو -: أَتُكسَر ثَنِيَّةُ الرُّبيع يا رسول الله؟ والذي بعثك بالحق، لا تُكسَر ثنيَّتها، فبينما هو يُراجع رسول الله راجيًا من فضلِ الله، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يراجِعه، عفا أهلُ الجارية عن القِصاص، ورَضُوا بالدِّيَة، وصدق الله مَن صدقه، ووفى لمن وفَى له، ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 111]؟ وأرسلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً رائعًا، وحِكمةً بالغة: ((إن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبرَّه)).
لقد كانت الأمة الإسلامية مرفوعةَ الرأس، مسموعةَ الكلمة، عزيزةَ الجانب، أيامَ أنْ كان فيها أمثال أنس بن النضْر - رضي الله عنهم - ممن يستجيبون لله وللرسول إذا دعاهم لما يُحيِيهم، لا يتخاذلون ولا يتواكلون، ولا يَهينون ولا يَضعُفون، فإذا ما زلُّوا زلَّة فسرعان ما يَرجعون وينيبون، ويتَّخِذون من الشدائد عِبرًا رائعات، وعِظات بالغات، ومنارًا من الشبهات والظلمات، ثم ضعفت التربية الإسلامية رويدًا رويدًا لما استنام المسلمون إلى الدَّعَة، واطمأنوا إلى الراحة، واستراحوا إلى التَّرَف، والترفُ آفة الأمم، وقاتِل الهمم!
مصيبة المصائب:
وكانت مصيبة المصائب أن تركوا الجهادَ لما خدَعهم الأعداءُ بالمدينة، ورمَوهم بالعصبية، وأعدُّوا لهم ما استطاعوا من قوَّة، وهم في غمرةٍ ساهون، حتى إذا تمكَّنوا منهم انقضُّوا عليهم من حيث لا يشعرون، ألا فليتنبَّه المسلمون وليستيقظوا، وليعودوا إلى تاريخهم الأول، ومجدهم المؤثَّل، ولا سبيل إلى ذلك - إن شاؤوا - إلا إذا جاهَدوا في سبيل الله، وأعلَوا كلمة الله ﴿ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174].
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي
[1] مجلة الأزهر، العدد الخامس، المجلد التاسع عشر 1367.
[2] أخرجه البخاري (2805) في الجهاد، ومسلم (1903) في الإمارة.
[3] واهًا: كلمة تدل على الإعجاب، أو التلهُّف، كأنه يُعجب بريح الجنة، وقد تمثَّلها أو أكرمه الله بشذاها، والنضر: يجوز أن يكون ابنه الصغير الذي تركه في رعاية الله مؤثِرًا عليه الجهاد في سبيله، وأن يكون أباه الذي كان يَبَره ويُكرِمه (طه).
[4] وما أجمل تعبيره في جانب الأولياء (بالاعتذار)، وفي جانب الأعداء (بالتبرؤ)! وأنه كان غير راضٍ عن صنيع الفريقين جميعًا (طه).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم