الانحراف مفهومه وأسبابه ومظاهره - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

اقتباس

وهذا الانحراف أشكال وأنواع وصور عديدة، من أهمها: الانحراف العقدي، والانحراف الفكري، والانحراف الأخلاقي، وعادة ما تكون بداية الانحراف بالنوع الثالث وهو الانحراف الأخلاقي، فيكون المرء تقيًا صالحًا مستقيمًا، فتعن له شهوة، فلا يتمالك نفسه فيقع فيها، فتكون هذه بداية فتنته وانحرافه، ثم تتوالى بعده الأنواع الأخرى من الانحراف...

يا له من شاب عابد تقي نقي ورع، تظهر عليه أمارات الصلاح، فها أنت كلما دخلت المسجد وجدتَه في الصف الأول، وها هو سبَّاق إلى كل طاعة يؤذن لصلاة الفجر ولغيرها من الصلوات في صوت ندي جميل حتى أحب المصلون صوته وارتبط عندهم صوته بالصلاة وبطاعة الله، وها هو يبدأ في تحضير دروس علم بسيطة ويشرع في إلقائها على الناس ولقد استحسنها كثير منهم، وها هو يصاحب الصالحين ويماشيهم حتى أنار وجهه بنور الهدى والفلاح... هو شاب إذا رأيتَه تذكَّرتَ قول رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- حين عدَّ السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "وشاب نشأ في عبادة الله"(متفق عليه).

 

لكن ماذا دهاه؟! ماذا حصل له؟! أي بلاء حلَّ به؟! لقد بات يتأخر عن الأذان للصلوات، لقد صار يصلي في الصف الأخير، لقد أصبح يصلي مسبوقًا! لقد علمنا أنه يصلي في بيته! لقد ترك الصلاة! وانقطع عن دروس العلم! ولقد زهد في صحبة الصالحين حتى تخلف عن صفهم! بل يا ويله؛ لقد رآه بعض من كان يصلي خلفه وهو يدخن "سيجارة" في الطريق العام! ومَنْ تلك الفتاة المتبرجة التي يماشيها ويضاحكها ويجاريها؟ أهي أخته أهي بنت أخيه... لقد أكد عارفوه أنها ليست بمحرم منه!

 

لقد حزن عليه رواد المسجد والصالحون حزنًا شديدًا، ولقد باءت كل محاولاتهم لإصلاحه ودعوته بالفشل، ولقد غاب وطالت غيبته... لكنهم استبشروا حين رأوه قادمًا نحوهم في يوم من الأيام حتى أقبل عليهم وسلَّم وجلس بينهم، فقاموا إليه واعتنقوه، وهم يقولون: "أهلًا بعودتك ومرحبًا، كنا نعرف أنك راجع لا محالة، لقد افتقدنا صوتك في الأذان والصلاة، أسوف تجلس معنا حتى يحين موعد الصلاة فتؤذن لها كما كنت تؤذن؟"، فتكلم الفتى، وخاب أملهم عندما تكلم؛ فلقد جاء يعرض عليهم شبهات تلقفها من هنا وهناك، لقد جاء ينتقد ما هم عليه من هدى ويشككهم فيه، لقد جاء يسأل أسئلة ما سألها قبله إلا كل مفتنون!...

 

لقد سُقِط في أيديهم، ماذا جرى له؟ كيف انحرف عن طريقه الأول؟ ما الذي جرَّه إلى ما هو عليه الآن؟ لماذا استبدل القرآن بالغناء، والصلاة بالتسكع في الطرقات، ومصاحبة الصالحين بمخادنة الفاجرات؟!...

 

ويا ليتها كانت مصيبة هذا الشاب وحده، ليتها كانت حالة فردية، لكنها مصيبة كثير من الشباب اليوم؛ يخطون خطوات في طريق الخير، حتى إذا بدا عليهم نوره وهداه واستبشر بهم الصالحون وأمَّلوا فيهم الخير، إذا هم ينكصون على أعقابهم، متخليين عما عرفوا من الهدى زاهدين فيه!

 

***

 

إنها مصيبة تسمى: "الانحراف" وقد ترادفها كلمة: "الانتكاس"؛ فإن المرء لا ينحرف إلا وقد كان قبلُ مستقيمًا، والانحراف: هو الميل والاعوجاج عن الصراط المستقيم... وهذا الصراط المستقيم واحد لا ثاني له، وهو طريق الحق والفضيلة، هو الالتزام بالقرآن والسنة، هو اتباع النبي -صلى الله عليه وسلـم- والصحابة والتابعين من بعده.

 

وما دام الصراط المستقيم واحدًا لا يتعدد، فإن كل ما عداه ضلال وانحراف، لذا قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام:153]، وقد شرح هذا وبيَّنه بالمثال رسولُ الله -صلى الله عليه وسـلم-، فعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًا، فقال:  "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) إلى آخر الآية [الأنعام: 153]"(ابن حبان).

 

***

 

وهذا الانحراف أشكال وأنواع وصور عديدة، من أهمها: الانحراف العقدي، والانحراف الفكري، والانحراف الأخلاقي، وعادة ما تكون بداية الانحراف بالنوع الثالث وهو الانحراف الأخلاقي، فيكون المرء تقيًا صالحًا مستقيمًا، فتعن له شهوة، فلا يتمالك نفسه فيقع فيها، فتكون هذه بداية فتنته وانحرافه، ثم تتوالى بعده الأنواع الأخرى من الانحراف، ولعل أبرز مثال على ذلك ما وقع لليهود؛ فعن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "... فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(مسلم)، وما زالوا ينحدرون من لون من الانحراف إلى الآخر حتى عبدوا العجل من دون الله -والعياذ بالله-.

 

ولو اقتصر الأمر بالمنحرف على الانحراف الأخلاقي وحده، لكُنَّا نرجو له الإنابة السريعة والتوبة الناجزة النصوح، فقد كانت معصية أبينا آدم لشهوة، فكانت بعدها التوبة، لكن الحال أن من سقط في الانحراف الأخلاقي وتوغل فيه ولم يرجع فإنه سرعان ما يقع في الوحل النتن لأنواع أخطر من الانحراف منها الانحراف الفكري فتنقلب عنده الموازين، وتختلط عليه المقاييس فلا يدري بما يزن الحق والباطل ولا علام يقيسه؛ أبميزان الشرع أم أن غيره عنده أولى! فلا يعرف الصواب من الخطأ فيضل عن منهج الله إلى العفن مما سواه.

 

ولا يلبث أن يغرق في الانحراف العقدي، فتتسخ عقيدته وتتلون وتتبدل، فيصير المقدس عنده هو رأيه، والمتبع عنده هو هواه، والمصدَّق عنده هو عقله، يستهويه الشيطان من طين إلى وحل حتى يركسه -نعوذ بالله من الخذلان-.

 

***

 

ولا شيء يأتي من فراغ، بل لكل مصيبة تحل بإنسان أسبابها: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30]، وإن لهذه الظاهرة؛ ظاهرة الانحراف -خاصة عند الشباب- أسباب كثيرة، لعل أخطرها وأهمها في نظري ما يلي:

 

أولًا: خبيئة شيطانية دفينة في قلب صاحبها: فما كان مخلصًا حين استقام، فعمله عمل الصالحين وقلبه قلب الطالحين، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- حين قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار"(متفق عليه)، وفي رواية للبخاري زاد: "وإنما الأعمال بالخواتيم".

 

ثانيًا: شهوات ونزوات تغلبت عليه: وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"(مسلم)، واتباع الشهوات والسقوط في المعاصي والذنوب بسببها عامل من عوامل الهلاك والانحراف مهما كانت تلك الذنوب صغيرة في عيني فاعلها، فعن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب لهن مثلا: كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، فأججوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها. (أحمد).

 

ثالثًا: ذنوب الخلوات: وهي أصل الانتكاسات، وهي سبب الحسرات يوم القيامة، فعن ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله -عز وجل- هباءً منثورًا"، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: "أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها"(ابن ماجه).

 

 

رابعًا: صديق السوء: وهل يعلِّم طُرُق الشر ويدل عليها كصديق السوء! وكم عاصرنا من شباب انحرفوا وسلكوا سبل الرذيلة وكان السبب المباشر هو صحبة السوء، وهذا أمر قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(الحاكم)، وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة"(متفق عليه).

 

خامسًا: إهمال الوالدين: فتجد الأم لاهية والأب مشغول، الأم في مهام بيتها غارقة، والأب في أودية طلب الرزق تائه، فيترك الاثنان ولدهما كأنه يتيم؛ يتيم أبواه على قيد الحياة:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أمًا تخلت أو أبًا مشغولا

 

فإنه يعيش بلا توجيه، يعيش ولا يدلُّه أحد على طريق الخير، يحيا بين أبوين يربيان جسده فقط، ويهملان قلبه وعقله وسلوكه! حتى يكون الانحراف.

 

سادسًا: الإعلام الفاسد: وقد ذكرته في ذيل الأسباب مع أنه قد أصبح من أخطر أسباب الانحراف في عصرنا؛ ليكون آخر ما تقرأ فلا تنساه بل تحذره، فإن جل الإعلام في بلاد العرب قد أصبح يهدم ولا يبني، يدعو إلى الرذيلة ويحقر الفضيلة، ولا أقول: يحرض على الانحراف، بل هو يعلِّم الانحراف ويدرِّسه ويقدِّسه ويعلي من قيمته ويجعله هو الأصل وما سواه استثناء! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ثم الأسباب بعدُ كثيرة معلومة مشهورة.

 

***

 

ولأن هذه الظاهرة خطيرة جد خطيرة، فإنها تنخر في الجذور فتجف السيقان والأغصان وتتساقط الأوراق، وأنها تصيب الأطفال والشباب والكهول وتصيب الرجال والنساء والجميع على حد سواء، لذلك فقد خصصناها بهذه الصيحة؛ "صيحة نذير" تنذر بخطرها وتحذر من استشرائها وتخوِّف عواقبها، فإليك ما جمعنا:

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
الخطبة الثانية عشر:
الخطبة الثالثة عشر:
مادة (تربية الأبناء) من الكشاف العلمي
العنوان
ظاهرة انحراف الشباب 2010/12/02 31171 1606 171
ظاهرة انحراف الشباب

الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع. إنّ انحرافَ الشباب من أعظم المسائلِ المطروحة اليومَ وأهمِّ القضايا التي تُقلِق الآباءَ والمربِّين .

المرفقات

انحراف الشباب

المرفقات
بوست029-الانحراف-01.jpg
بوست029-الانحراف-02.jpg
التعليقات
زائر
09-05-2024

البداية الصحيحة لتقويم انحراف النفس أو انحراف الآخرين

هو التعرف على الحلال والحرام

 ثم الإلتزام الصحيح بالشريعة

حتى يدافع الله عنه

والإبتعاد عن كل مايثير في نفسه الميل للإنحراف

والدعاء فهو الدواء

والصبر إاى أن يصيب الدواء الداء

فيشفى بإذن الله تعالى

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life