اقتباس
فالمترفون المسرفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم والمقدسات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي ..
تعاني الكثير من المجتمعات من حالة من الترهل الاجتماعي سببتها حالات من الترف والإسراف والتبذير التي يعيشها أفرادها، وهي أمراض مجتمعية خطيرة كفيلة بالقضاء على مقدرات المجتمعات ومكتسباتها بين عشية وضحاها؛ فالتاريخ والواقع ينبئان بالعلاقة الطردية بين مستوى الرفاهية والبذخ والترف الذي يعيش فيه الأفراد وبين معدلات الاندثار والهلاك التي يحتمل أن يصاب بها مجتمع ما، فكلما زادت معدلات الإسراف والإنفاق زادت احتمالات السقوط والتردي الاجتماعي التي ربما أصيب بها المجتمع في مرحلة تالية، وهذه سنة كونية وشرعية لا تتبدل؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء: 16].
فالمترفون المسرفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم والمقدسات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.
والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعمّ فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك، فهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين، فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننًا لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته، والله لا يأمر بالفسق؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، لكن وجود المترفين في ذاته دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاءً وفاقًا، وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة. وهنا تبرز تبعة المجتمع في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرًا، هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرنًا بعد قرن.
وعقّب الله تعالى في هذا السياق على الآية سالفة الذكر بقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)، فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها، فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجّل له حظه في الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويعُبُّون من ملذاتها ومحابها عبًّا غير مفهوم، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم عياذًا بالله.
أما الذي يريد الآخرة فلا بد أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، وينهض بتبعاتها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، هذا السعي الذي لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى، فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية، بل ربما لا ينتبه العبد إلى وجود تلك اللذائذ أصلاً لشدة ما يشغل باله من أمر السعي للآخرة.
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام، أما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه وأودع روحه، ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.
إن الإسراف والترف مرضان خطيران، ما أن يسيطرا على سلوك المجتمع إلا ويجعلانه مجتمعًا مظهريًا خاليًا من المضمون، مجتمعًا قشريًا غليظ الغلاف لكنه رخو الجوهر، يسيطر عليه التباهي بالكماليات في الوقت الذي تنخر فيه سوسة الضعف وعدم التماسك، يهتم أفراده بأنواع الأطعمة والأشربة والسيارات الفارهة والهواتف النقالة والحواسب المحمولة والثياب الغالية، ولكنهم لا يأبهون لتفلت القيم وغياب المعايير وانتشار الفواحش، فالإسراف وإدراك الملذات بالإنفاق المسرف إذا سيطر على سلوكيات أفراد المجتمع، وضعهم في حالة من عدم الإدراك أو الالتفات إلا للملذات والشهوات فحسب، وحينها تسيطر شهوتا البطن والفرج على سلوكيات البشر حتى تضعهم في أتون مستعر وسباق محموم لأجل تحصيل اللذة دون النظر إلى مآلاتها وعواقبها.
لأجل ذلك كان التحذير الشرعي المستمر من الإسراف والتبذير والترف، بل والحث على التقلل من مباهج الدنيا قدر ما يستطيع الإنسان، لكيلا تسيطر عليه شهواتها وملذاتها وتسيِّره حيث تشاء، فيصير عبدًا لها بعد أن كان مالكًا لمفرداتها ومتحكمًا في تفاصيلها، فالأفراد يكتسبون قوتهم باستعلائهم على الشهوات والملذات واستغنائهم عنها، أما استجابتهم المستمرة لها وانصياعهم الدائم لنداءات نفوسهم تجاهها فمن شأنه أن يعبِّدهم لشهواتهم، فلا يستطيعون منها فكاكًا ولا خلاصًا.
ومن هنا كان المبذرون إخوانًا للشياطين؛ لأنهم ينفقون في الباطل، وينفقون في الشر، وينفقون في المعصية، فهم رفقاء الشياطين وصحابهم (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، لا يؤدي حق النعمة، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق، غير متجاوزين ولا مبذرين.
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع انتقينا من بستان الخطابة مجموعة رائقة من الخطب التي تغوص في أعماق هذا المرض -الإسراف والترف-، تشرح أسبابه ومظاهره وكيف انتشر في بلادنا، وما تأثيره على الفرد والمجتمع، وما العلاج الناجع والدواء النافع الذي من شأنه أن يقضي على هذا المرض الفتاك الذي ينخر في صلب المجتمع وأفراده؛ سائلين الله تعالى أن يعافي أمتنا من هذه الداء الوبيل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات