اقتباس
لقد قصرت أفهام الكثيرين عن معنى الأمانة فحصروها في حفظ الودائع المالية والمادية فحسب، وضيقوا بهذا الفهم واسعا.. في حين إنها ليست إلا لونًا من ألوان الأمانة التي تتعدد وتتجدد؛ فالقيام بالواجب أمانة، وترك...
لم تزل الأمانة تتناقص على مدى الزمان منذ عهد النبوة الأول إلى عصرنا هذا، فبين استئمان مشركي مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أموالهم رغم محاربتهم المحمومة له ولدعوته، وبين الخيانات المعاصرة التي طفحت بها صحف الجرائد والمجلات؛ يظهر البون الشاسع بين الحالين، وتَبِينُ الهوة الشاسعة بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن بالفعل.. فالواقع -رغم ما فيه من بقع ضوء باهرة- إلا أنه لا يزال مثقلاً بكثير من جراح الخيانة.
إنها الأمانة العظمى بمفهومها الواسع الذي أرادها الله لها وأرادها رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهي ضد الخيانة بمفهومها الواسع الذي نهى الله ورسوله عنها؛ لتكون الأمانة في كل ما افترض الله على العباد في الدين والأعراض والأموال والعقول والأنفس والمعارف والعلوم والولاية والحكم والشهادة والقضاء والأسرار والحواس الخمس ونحو ذلك.. فهي -كما قال القرطبي رحمه الله-: "تعم جميع وظائف الدين".
إنه لا يمكن أن يكون الأمين أمينًا إلا إذا كان عافًّا عمَّا ليس له به حق.. مؤدِّيا ما يجب عليه من حقٍّ لغيره.. حريصًا على حفظ ما استُؤمِن عليه غير مفرِّطٍ به؛ فإن من اجتمعت فيه هذه الركائز فهو في دائرة المفلحين الذين قال الله -جل وعلا- عنهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[المؤمنون:1].. إلى أن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون:7].
الأمانة لم تكن بدْعًا من التشريع الإسلامي المحمدي فحسب، بل هي من أبرز أخلاق الرسل والأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والسلام-؛ فهذا نوحٌ وهودٌ وصالح ولوطٌ وشعيب.. كل واحدٍ منهم قد قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)[الشعراء:162]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- ما كان يُعْرَف في قومه إلا بالصادق الأمين، وقد جعل الباري -جل شأنه- هذه الصفة للروح الأمين جبريل -عليه السلام- في قوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)[الشعراء:193].
لقد قصرت أفهام الكثيرين عن معنى الأمانة فحصروها في حفظ الودائع المالية والمادية فحسب، وضيقوا بهذا الفهم واسعا.. في حين إنها ليست إلا لونًا من ألوان الأمانة التي تتعدد وتتجدد؛ فالقيام بالواجب أمانة، وترك المنهي أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والحكم أمانة، ورعاية حقوق الأمة أمانة، والعلم أمانة، وحماية الدين والذب عن حياضه أمانه، وصيانة أرض الوطن المسلم وحماية ممتلكات المجتمع أمانة..
فكل أمانةٍ من هذه الأمانات تتحقق بإقامة مصلحتها ودرأ مفسدتها وعدم خذلان الأمة فيها: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)[النساء:107].
وإذا نظرنا إلى كلمة الأمانة فإننا سنجد فيها معنى الأمان والاطمئنان.. فكأن الأمن والطمأنينة والراحة والاستقرار مرهونةٌ كلها بتحقيق الأمانة على وجهها الصحيح؛ فلا يمكن أن يأمن ظالمٌ ولا يهدأ عاص ولا يسعد خوَّان ولا يفلح منافق ولا يصل متلفت..
وفي حين أن القرآن الكريم قد ذُكِرت فيه الأمانة في مواضع كثيرة فإنه في الوقت نفسه قد جاء التحذير من ضدها.. وهي (الخيانة).. فقال الله -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال:27]، وقال سبحانه: (... وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)[يوسف:52].
وكفى بالخيانة شرًّا وقبحًا ومقتًا أنها سببٌ في دخول جهنم وبئس المصير من خلال ما ضرب الله لنا مثلًا بامرأتين من نساء الأنبياء والرسل، و(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[التحريم:10].. أي خانتاهما في الدين، وكانتا تدلان أقوامهما بمن يؤمن مع أزواجهما.
وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع انتقينا لخطبائنا الكرام مجموعة من الخطب المختارة حول الأمانة، ومدى اتساع مفهومها وعدم اقتصاره على حفظ الأمانات، نذكر من خلالها فضل الأمانة، ومحاولين رصد نماذج طيبة من أمانة سلفنا الصالحين، ومقارنة ما كانوا عليه بما وصل إليه حال الأمة اليوم من تضييع للأمانات ومحاولين وضع العلاجات لغياب الأمانة في واقعنا الأليم.
التعليقات